3 ، ن
4 ... فمروره بأية نقطة واقعة على خط مساره في لحظة معينة، يمكن حسابه مقدما من سرعته بناء على «قانون» الحركة، وليس هنا - بناء على «نيوتن» - سببية على أية صورة من الصور، وإذن فمرور الجسم المتحرك على نقطة ن
3 - مثلا - حادثة بغير سبب، وإن تكن قد حدثت وفق قانون معلوم، أما إذا غير الجسم المتحرك طريق سيره بفعل جسم آخر اصطدم به، فعندئذ يكون التحول في مجراه نتيجة لسبب، وعلى هذا النحو يجعل «نيوتن» مبدأ السببية غير شامل لحوادث الطبيعة كلها، وهو يجعل ذلك «مبدأ مفروضا» ليس مما يقوم عليه برهان. (ب)
فلما جاء القرن الثامن عشر، غير الناس افتراضهم، واستبدلوا به افتراضا آخر، أو قل: اتخذوا لأنفسهم «مبدأ» آخر في فهم الطبيعة، إذ جعلوا السببية شاملة لحوادث الطبيعة كلها، وأصبح المبدأ عندهم هو أن لكل حادثة سببا، وها هنا كتب «كانت» ما كتبه من فلسفة يحلل بها قضايا العلم الطبيعي، فكان أن انتهى من تحليله إلى أن السببية مقولة من المقولات العقلية التي يفهم بها الإنسان كل مدركاته التجريبية، لا لأن السببية مبدأ عم الطبيعة في كل عصوره، بل لأنه المبدأ المأخوذ به في عصره هو، وكان هذا هو ما رد به على الفيلسوف الإنجليزي «هيوم»، إذ لاحظ «هيوم» أن السببية لا تقع فيما يقع للإنسان من خبرة، وإذن فليس يمكن إقامة برهان عليها. إن الإنسان - في رأى هيوم - حين يشهد كرة تصدم كرة أخرى فتحركها، لا يرى «سببية» بين الكرتين، وكل ما يراه بعينيه من هذه الحادثة هو أن كرة أولى تحركت وكرة ثانية تحركت عند لحظة زمنية معينة، هي اللحظة التي تماست فيها الكرتان، وعلى هذا فلا تكون حوادث الطبيعة مرتبطة بهذا الرباط السببي الذي زعمناه، فجاء «كانت» بتحليله السالف الذكر، يقول: نعم، إن «السببية» ليست ما نراه بالأعين، بل هي «مبدأ عقلي» نفهم على ضوئه تتابع الحوادث، فما معنى ذلك؟ معناه أن علماء الطبيعة في عصره يفهمون حوادث الطبيعة على افتراض افترضوه، وهو أن لكل حادثة سببا، وكان يمكن أن يفترضوا افتراضا غيره، وأن يفهموا حوادث الطبيعة فهما يختلف عن فهمهم لها، كما حدث ذلك في القرن السابق لعصر «كانت» - وهو عصر «نيوتن» كما قدمنا لك - وكما حدث أيضا في العصر الحديث.
إن من أهم ما يميز علم الطبيعة في القرن الثامن عشر - وهو عصر «كانت» - هو أنه يستخدم «السببية» و«القانون الطبيعي» بمعنى واحد، فما هو خاضع لقانون طبيعي خاضع في الوقت نفسه للرابطة السببية، والعكس صحيح على خلاف ما رأيناه في القرن السابع عشر، إذ جعلوا حوادث الطبيعة نوعين: فمنها ما يخضع لقوانين ومنها ما يخضع للسببية، جاعلين لكل من هاتين الكلمتين معنى غير معنى الكلمة الأخرى. (ج)
وجاء علم الطبيعة في عصرنا الراهن، فاختفت فكرة السببية من أذهان العلماء اختفاء تاما، ولم يعد شيء في رأيهم يحدث بفعل هذا «السبب» أو ذاك، بل تحدث الظواهر وفق «قوانين»، وما القوانين إلا ضروب من تتابع الحوادث لوحظت وسجلت، فإذا اصطدم جسم متحرك بجسم آخر بحيث تغير مجراه، لا نقول ما كان يقوله «نيوتن»: إن قانون الحركة قد تعطل فعله في هذه الحالة «بسبب» خارجي هو الصدمة التي جاءت من جسم آخر فغيرت مسار الجسم المتحرك، وإنما نجعل الحركة كلها بما يحدث فيها من انكسارات خاضعة لقانون أو أكثر.
فما معنى هذا كله، ماذا نقول في فيلسوف يقرر - مثلا - أن لكل حادثة سببا، وأن مبدأ السببية شامل لحوادث الطبيعة كلها، كما قال «كانت»؟ إننا نقول له: هذا مبدأ قام في عصر واحد، وانبنى عليه علم ذلك العصر، فإذا قررته فأنت إنما تؤرخ للفكر في ذلك العصر، لا أكثر ولا أقل، ولو أرخت لعصر «نيوتن» لاضطررت إلى قول آخر، وهو أن لبعض الحوادث أسبابا دون بعضها الآخر، ولو أرخت للعصر الحاضر، لاضطررت أن تقول قولا ثالثا، وهو أن ليس لأية حادثة من حوادث الطبيعة سبب على الإطلاق.
إن من حق الفيلسوف - بل من واجبه في رأينا - أن يحلل الفكر في أي عصر شاء ليستخرج مبادئه الأولى المفروض صدقها عند أهل ذلك العصر، لكن ليس من حقه، ولا مما يؤدي إلى معنى، أن يتناول هذه المبادئ بالتأييد أو بالتفنيد، كأنها من القضايا العادية التي تزعم عن الكون هذا الشيء أو ذاك، الفيلسوف الذي يتناول المبادئ الثلاثة السابقة عن «السببية» ليقول: إن رأيه هو صواب هذا وخطأ ذلك، يجاوز حدود مهمته المعقولة المشروعة، ليدخل في مجال الكلام الذي لا يحمل معنى، فليس مما له معنى أن تقول عن فرض ما: إنه صادق أو كاذب؛ لأن الفرض في كل الحالات مسلم به؛ لأنه مجرد فرض، وليس هو بالعبارة التي تدعي الوصف والتصوير. والذي يقال عنه إنه صحيح أو خطأ، هو ما ينبني على الفرض من نتائج، فعندئذ يجوز لنا أن نقول عن نتيجة ما إنها صواب؛ لأنها تتسق مع الفرض الأول، أو إنها خطأ؛ لأنها لا تتسق مع الفرض الأول.
لو قال قائل: «ليس في العالم سببية تربط حوادثه.» لكان قوله هذا صوابا بالنسبة لعصرنا هذا؛ لأنه متفق مع الفرض الأول الذي ينبني عليه علم الطبيعة الآن، لكنه يكون خطأ بالنسبة لعصر «كانت»؛ لأنه لا يتسق مع الفرض الأول الذي افترضه أهل ذلك العصر.
وهنا يظهر الفرق بين عمل العالم وعمل الفيلسوف: العالم يقيم أبحاثه ونظرياته على أساس فروض مزعومة ليس من شأنه أن يتعرض لها، بل ليس حتما عليه أن يكون على وعي بها، والفيلسوف يحلل أقوال العالم ليستخرج من لفائفها الفروض التي على أساسها بنيت تلك الأقوال، أو بعبارة أخرى: يقرر العلماء في العصر المعين مبدأ على أنه حقيقة، ويأتي الفيلسوف فيؤرخ لهم ما يقررون، فلو تكلم عالم من القرن الثامن عشر لقال على صورة تقريرية: «لكل حادثة سبب.» ولو تكلم فيلسوف عن ذلك العصر لقال: «يفرض العلماء أن لكل حادثة سببا.» وواضح أنك إذا أردت مناقشة الفيلسوف في قوله هذا، فينبغي أن تقوم المناقشة على أساس تاريخي، فهو في قوله مستند إلى «وثائق» هي القضايا التي قالها علماء ذلك العصر، وأما أنت فتدعي له أن تلك «الوثائق» لا تدل على النتيجة التي انتهى إليها، إنكما لا تختلفان في صحة المبدأ نفسه، بل يكون موضع الاختلاف بينكما هو: هل يدل تحليل ما قاله العلماء في ذلك العصر على أنهم كانوا يفرضون هذا المبدأ المعين أساسا لتفكيرهم؟
صفحة غير معروفة