لكنه بعد خوضه في تحليل الأحكام العلمية - رياضية وطبيعية - انتهى إلى المعنى الثاني، فأصبحت الميتافيزيقا بمعناها المجدي من الناحية العلمية، هي مجرد تحليل القضايا العلمية.
فموقفنا إزاء «كانت» هو رفض للمعنى الأول، لا على أساس أن الميتافيزيقا عندئذ تكون فوق مستطاع العقل الإنساني، بل على أساس أن أقوالها تكون فارغة من المعنى وتأباها قواعد تكوين اللغة ذاتها، وقبول للمعنى الثاني، فإن كانت كلمة «ميتافيزيقا» معناها «تحليل القضايا العلمية» كان موضوعها هو الذي قبلنا أن يكون عمل الفيلسوف، وسنبين فيما يلي طريقة «كانت» النقدية، أي طريقته في التحليل.
4
تبدأ الطريقة النقدية بالاعتراف بأن لدى الإنسان متفرقات من المعرفة، فأنا أعلم مثلا أن هذا الجدار أبيض، وأن 5 + 7 = 12، وأن جسمي له امتداد محدود في المكان ... وهكذا، إنها لا تريد أن تتشكك في صدق ما نعلمه عن الدنيا الخارجية، فليس البحث في صدق العلم أو كذبه من شأنها، بل هي تبدأ - كما قلنا - بقبول هذه الحقيقة الواقعة، وهي أن الناس يعلمون كذا وكيت من القضايا عن دنياهم الخارجية، فما هي الشروط الأولية التي أتاحت للإنسان أن يعلم ما يعلمه؟ بعبارة أخرى: تستطيع أن تقول إن القضية تنقسم إلى نوعين: قضية ابتدائية وقضية ثانوية، الأولى هي القضية التي تصور واقعة من وقائع العالم الخارجي، كقولنا: «الغربان سوداء.» والثانية هي القضية التي تقرر علم الناس بقضية ابتدائية، كقولنا: «الناس يعلمون أن الغربان سوداء.»
15
القضية الابتدائية تقابل الحقيقة الخارجية مقابلة مباشرة، وهي تصورها تصويرا قد يكون صوابا وقد يكون خطأ، وأما القضية الثانوية فتشير إلى موقف الإنسان العرفاني إزاء حقيقة معينة، والذي نقوله الآن: هو أن الطريقة النقدية عند «كانت» لا تعنى بالنوع الأول من القضايا، بل تعنى بالنوع الثاني، وهي تريد بالتحليل أن تكشف عن الظروف العرفانية الأولية التي أتاحت للإنسان أن يعلم ما يعلمه.
ومعلومات الإنسان - على كثرتها - يمكن حصر مصادرها في مصدرين، فهي إما جاءت إلى الإنسان خلال التجربة الحسية، وإما أن تكون عنده غير معتمدة على تلك التجربة، أو بعبارة أخرى؛ معلومات الإنسان إما بعدية أو قبلية،
16
وكل من هذين يعود فينقسم قسمين، فهو إما تحليلي أو تركيبي.
17
صفحة غير معروفة