32 - في موضوع الفلسفة؛ لأوضح لك به ما أريد، قال: «علوم الفلسفة ثلاث: فأولها العلم الرياضي في التعليم وهو أوسطها في الطبع، والثاني علم الطبيعيات وهو أسفلها في الطبع، والثالث علم الربوبية وهو أعلاها في الطبع، وإنما كانت العلوم ثلاثة؛ لأن المعلومات ثلاثة: إما علم ما يقع عليه الحس، وهو ذوات الهيولى، وإما علم ما ليس بذي هيولى: إما أن يكون لا يتصل بالهيولى ألبتة، وإما أن يكون قد يتصل بها، فأما ذات الهيولى فهي المحسوسات، وعلمها هو العلم الطبيعي، وإما أن يتصل بالهيولى وأن له انفرادا بذاته كعلم الرياضيات التي هي العدد والهندسة والتنجيم والتأليف (أي الموسيقى)، وإما لا يتصل بالهيولى ألبتة، وهو علم الربوبية».
وقد يكون كلام الكندي مما لا تألفه أذنك من الكلام، فخلاصة رأيه هذا هي أن الفلسفة تبحث إما في شيء لا يمكن أن يتصل بمادة وهو الله، أو في شيء قد يتصل بالمادة وقد ينفصل عنها بحيث يكون وجوده ذهنيا فقط مثل العدد، وعلمه الرياضة، أو في شيء يتصل دائما بالمادة ولا ينفصل عنها كالأشجار والنجوم والهواء، وعلمه الطبيعة؛ وبعبارة أقصر، يقول الكندي: إن موضوع الفلسفة ثلاثة: الإلهيات والرياضة والطبيعة.
والذي أريد أن أعترض به على أمثال هذا القول، هو أنك حين تبحث في الإلهيات فأنت من رجال الدين ولست بالفيلسوف، وحين تبحث في الرياضة فأنت رياضي لا فيلسوف، وحين تبحث في الطبيعة فأنت من علماء الطبيعة لا فيلسوف.
كلا، ليس للفلسفة موضوع، ولا ينبغي أن يطلب إليها أن تصل إلى نتائج هي من شأن رجال الرياضة والعلوم الطبيعية، ولو طلبنا إليها ذلك كنا عابثين ، ولو أخذ الفيلسوف على نفسه أن يصنع ذلك كان عابثا واستحق سخرية الساخرين، إنما واجب الفلسفة الصحيح المفيد هو نقد وتحليل؛ نقد وسائل التعبير وتحليل معاني الألفاظ التي يستخدمها الرياضيون والعلماء؛ ليزداد الإنسان فهما لما يقوله الرياضيون والعلماء، بل ليزداد الرياضيون والعلماء أنفسهم فهما لما يقولون ... ليس للفلسفة موضوع معين، وليس لها أن تنبئنا عن حقائق الكون؛ إنما هي طريقة بغير موضوع، كقولك عن الرجل: إنه وزير بلا وزارة، فيعمل في شئون العدل مرة وفي شئون الدفاع مرة؛ هي البحث عن معاني الألفاظ، لا كما تشرحها القواميس، بل هو تحليل يسير على أوضاع وشروط - سنفصل القول فيها تفصيلا فيما بعد، حين نعرض طرائق التحليل عند «مور» و«رسل» و«كارنب».
ليست الفلسفة مجموعة من «القضايا» يتقدم بها الفيلسوف، ليخبر في كل قضية منها بخبر عن هذا الجانب أو ذاك من جوانب العالم، وفي هذا يقع الاختلاف بينها وبين مختلف العلوم، فالعلم من العلوم - كعلم النبات مثلا أو علم الضوء - مؤلف من مجموعة قضايا، أو إن شئت فقل إنه مؤلف من مجموعة قوانين، أما الفلسفة فلا «قضية» عندها تقدمها، ولا «قانون» من قوانين العالم هو من نتائج بحثها، وإنما ينحصر عملها في تحليل ما تقوله شتى العلوم من قضايا، «ليست الفلسفة علما بين العلوم الطبيعية، بل موضوعها هو توضيح الأفكار [أي القضايا العلمية] توضيحا منطقيا، فليست هي بنظرية من النظريات، بل فاعلية ...»
33
الفلسفة «فاعلية» من نوع معين، وليست هي مجموعة أقوال يقولها القائلون ليصفوا بها شيئا، هي «فعل» لا «قول»؛ لأنك حين تتناول عبارة كلامية بتحليلها إلى عناصرها، فأنت تبذل في ذلك ضربا من ضروب النشاط، لكنك لا تقول من عندك شيئا، وهذا النشاط المبذول في عملية التحليل هو الفلسفة بالمعنى المراد، «إن الفلسفة فاعلية في عقولنا، تتميز بعلامات معينة من شتى ضروب الفاعلية الأخرى؛ إذ يميزها أنها نشاط وفعل في طريقة ومنهج، ولو عرفنا ما منهجها، استطعنا بذلك أن نعرف ما هي.»
34
وليست الفلسفة التحليلية وليدة اليوم ولا الأمس القريب ، بل تستطيع أن تلمس أصولها عند فيلسوف قديم هو في الحق نموذج الفلسفة الصحيح الكامل،
35
صفحة غير معروفة