فارتحل إليه ليأخذ عنه، ما دام الرأي قد أوشك على إجماع بأنه في الفلسفة المعاصرة إمام، وإذا برجاء الطالب يخيب خيبة كبرى؛ لأنه لم يجد عند هذا الفيلسوف المشهور حديثا في الكون وأسراره، وفي الحياة والموت والخلود، كما كان يتمنى ويشتهي، بل وجد الرجل يتناول عبارات إنجليزية بالتحليل، لا ينتقي في ذلك ولا يختار، فلا بأس - مثلا - في أن تكون العبارة التي يحللها هي «الدجاجة تبيض» أو «هذه محبرة كبيرة»، يا ضيعة الأمل إذن، فما جاء هذه الرحلة الطويلة ليسمع كيف يتحدد معنى كلمة أو عبارة في اللغة الإنجليزية.
16
إن هنالك طائفة من الأفكار جعل الناس يتبادلونها في وصف تجاربهم وخبراتهم، تسليما منهم بأنها معلومة مفهومة، فتراهم يتحدثون عن هذا الشيء أو ذاك، عن المقاعد والنوافذ وما إليها، يتحدثون عنها فيقولون: إنها في «مكان» معين، وإنها في اللحظة الفلانية من «الزمان» قد حدث لها كيت وكيت، وإنها «تتغير» لهذا السبب أو ذلك؛ ثم يأتي العلم فيأخذ هذه الأفكار من الاستعمال اليومي ليستخدمها بدوره بغير تعديل كبير، فيستخدم فكرات «المكان» و«الزمان» و«التغير» و«السببية» وغيرها، كأنما هي واضحة المعنى لا تحتاج إلى تحليل وتفسير.
لكنها في حقيقة الأمر فكرات غامضة بعيدة جدا عن التحديد والوضوح، وإذا لم يكن غموضها هذا باديا في معظم حالات استعمالها؛ فذلك لأننا في معظم هذه الحالات إنما نستعملها في دائرة لا يكاد يكون هنالك اختلاف بيننا في حدودها، غير أننا قد نجاوز هذه الدائرة أحيانا، وعندئذ يتبين ما كان يكتنف تلك الفكرات من غموض، لما يقوم بيننا عندئذ من اختلاف في معانيها، فمثلا قد نسأل عن مكان دبوس فنتفق جميعا على مكانه، ثم نرى صورته في المرآة فنسأل عن مكان تلك الصورة، وهل نقصد بالمكان هنا نفس ما نقصده حين نسأل عن مكان الدبوس؟ عندئذ نعجز عن الجواب حتى نحدد أولا معنى «مكان».
17
فالمهمة الأساسية للفلسفة هي أن تتناول أمثال هذه الفكرات التي نستعملها كل يوم في الحياة الجارية وفي العلوم، تتناولها بالتحليل الذي يحدد معانيها تحديدا دقيقا، وإنها لمهمة خطيرة؛ لأن المعرفة الواضحة الدقيقة بأي شيء كائنا ما كان هي - ولا شك - خطوة إلى أمام في سير الإنسان نحو العلم بما يريد العلم به، وليس هنالك من العلوم الأخرى ما يضطلع بهذه المهمة، فالكيمياء تستخدم فكرة «العنصر»، والهندسة تستخدم فكرة «المكان»، والميكانيكا تستخدم فكرة «الحركة» وهكذا، لكن لا هذه ولا هذه ولا تلك - باعتبارها علوما طبيعية - من شأنها تحديد معاني هذه الفكرات، فهي تتخذها نقطة ابتداء، فالمكان في الهندسة - مثلا - مفروض وجوده، وبقي أن نقسمه إلى مثلثات ومربعات ودوائر، لنعرف خصائص كل شكل من هذه الأشكال.
الفلسفة تحليل للألفاظ والقضايا التي يستخدمها العلماء والتي يقولها الناس في حياتهم اليومية، فليس من شأن الفيلسوف أن يقول للناس خبرا جديدا عن العالم، ليس من مهمته أن يحكم على الأشياء؛ لأن هذا الحكم يقوم به فريق آخر هم العلماء، كل في علمه الذي اختص به؛ فعالم الطبيعة أولى منه بالتحدث عن قوانين الطبيعة، وعالم النفس أولى منه بالتحدث عن قوانين السلوك ... وهكذا، بل مهمة الفيلسوف هي أن يحلل ويوضح المعاني، حتى لقد عرفت «سوزان لانجر» الفلسفة بأنها «علم المعنى».
18
وهنا قد يسأل سائل: ولماذا لا نترك توضيح معاني الألفاظ والعبارات في كل علم إلى أصحاب ذلك العلم؟ أليس العلماء أدرى بما يستخدمونه في علومهم من ألفاظ وعبارات؟
والجواب عن هذا السؤال ذو شطرين:
صفحة غير معروفة