وومضت إذ ذاك في سريرتي فكرة تمر بخاطر كل من تطبع كلماته. سأظفر بعبارة أستحلها في مقالة أو رواية. «لو أن أركوس حي!» هذه شطرة شعر، بل مطلع أغنية. ففتحت عيني وأصغيت بأذني الاثنتين: أجل يا مخيبر، «لو أن أركوس حي!»
فشع ذلك النور السماوي على وجهه من جديد، وسطعت عيناه وقال: لو أن أركوس حي، لكنا ركبنا الليلة طاولة بوكر!
لعنة كتاب
قعدت إلى كأس الوسكي أتجرعها كريهة، كأني أبلع كذبة صهيونية.
وقد كنت يقظا متوتر الانتباه، كمن هو في بحران رؤيا، تزخر في عروقه قهوة عدنية، وتعمم رأسه ثلوج من قمة «جبل الشيخ» في أصقع ليالي زمهريره.
ففي تلك الحالة جلست، أسمع التاريخ وأراه - التاريخ - حيا، صخابا، فتاكا، مضحكا، مريعا، متهتكا، خليعا، كما لم تعلمني إياه الكتب وأساتذة الجامعات، وكما لم يصوره خيالي.
فهذه الحانة حيث الوسكي رديء، والخادمات بغيات، والزبائن غوغاء، من بحارة وجنود، هي في أطراف شمالي مدينة «مانيلا». وفيما نحن نحتسي الوسكي، والبغايا يقتعدن أحضان الزبائن، وآلات الموسيقى تزفر، وتلهث، وتطبل؛ كانت المعركة - معركة مانيلا - على أشد احتدامها. هذه سيارات الجيش وكميوناته ترمح من أمامنا مثقلة جنودا وعتادا. هذه هي الطيارات تحوم فوق مراكز اليابانيين وترميهم بالموت المتفجر، وهذه هي المدافع الأميركية تبصق ألف قذيفة كلما أزت من الجبهة اليابانية قذيفة واحدة. ولو أن أحدا مشى بضع مئات من الخطوات جنوبا، لرأى اليابانيين المحاصرين، ذوي العيون الكلبة، والوجوه الحيوانية، ولسمع حينا بعد حين هجمات شرذماتهم تحدوهم شجاعة بهيمية يصرخون صرخات الوحوش الجريحة الكاسرة.
وكان كلما انفتح باب الخمارة، ظهر لي مشهد جديد؛ فهذا بحري يقاتل بحريا، وهذا جندي سكران يفترش القناة، وهذه فتاة أميركية من الملتحقات بالجيش تريد أن تبادل معجون الأسنان وقنينة الكولونيا بمصنوعات «مانيلا» من زنانير قش، وأحذية خشبية. وذاك غليظ يترصدك؛ ليروي لك للمرة العاشرة أنباء غماره في هذه الحرب، وخسائره فيها. ومر بائع جرائد فابتعت منه صحيفة الجيش، فإذا فيها أن كل شمالي «مانيلا» أصبحت في أيدي الأميركان، وأن اليابانيين في تراجعهم نسفوا الجسور الثلاثة التي تصل شمالي المدينة بجنوبها فوق نهر «الباسغ»، وأن الجسر الرابع سليم؛ إذ إن اليابانيين أبقوه خشية أن تنقطع المياه عنهم، وهي تمر بقسطل فوق الجسر، وأن القيادة العامة الأميركية في حيرة؛ إذ لو قذفوا الجسر بالمتفجرات فقد ينقطع الماء عن الأهالي الذين لا يزالون في المنطقة اليابانية، وأن اليابانيين يستميتون في الدفاع عن الجسر، فكلما قتل منهم جندي، ظهر جندي يجعل من جثة رفيقه متراسا للدفاع.
أما أنا فلم تهزني هذه المشاهد، ولم يرعبني قصف المدافع، ولم أكن بالناظر إلى هذا التاريخ الذي يهدر حولي نظرة الفيلسوف، بل إن أفكاري ومشاعري وقلقي كانت متوثبة يقظة، أتساءل عن إبراهيم جوهر، ترى أسليم هو أم ... أم ...؟! كلمة كلما تخيلتها طلبت كأسا من الوسكي من جديد.
وكيف لا أقلق على إبراهيم جوهر، وهو عشيري، وشريبي، ومساكني خلال خمسة عشر عاما، وقد افترقنا لأسبوع خلا، في الجبال، إذ يمم هو سراديب معادن الذهب للاختباء فيها، وقصدت أنا إلى الأحراج. وهذه جيوش الأميركان قد حررتنا وأتت بنا إلى «مانيلا»، واليوم قيل لنا: إن الجيش احتل مناجم الذهب، وإن كميونات الإنقاذ ستأتي بالأجانب الأحياء إلى «مانيلا»، وقد دفنت القتلى منهم - وهم كثيرون - حيث وجدتهم.
صفحة غير معروفة