أما الأطباء فقد جاءوها فرادى وبعثات، وأما الأدوية فقد استحالت دار الكرار إلى صيدلية. ونزلت بمحمد الحيرة فلم يدر ماذا يفعل؛ فقد دعا الإخصائيين من دمشق، وبيروت، والقاهرة، وكل يصف علاجا، ويذكر اسم علة، ولم يتفق اثنان على تسمية الداء، غير أنهم أجمعوا على أن رئيفة إن لم تكن مسلولة فهي على أبواب السل، وأن هواء الصحراء الجاف يفيدها؛ لذلك تهافت محمد على قبول وظيفة معاون لأستاذه الجيولوجي في الصحراء السورية. وانتقل برئيفة وأدويتها إلى خيمة في البادية تحاذي خيمة الأميركي البحاثة، وقطع علاقاته مع المدرسة في ضاحية دمشق.
وهكذا مرت الشهور على تلك الخيمة يظللها شبح الموت، ولا يسمع فيها إلا أنات رئيفة وشظايا من كلامها؛ إذ هي تحرض محمدا على الاعتناء بصحته، وتضرع إليه أن يأكل وأن ينام، وتبكي إذ ترى نحوله وشحوبه ونظراته التائهة. أما محمد فقد يئس من الطب وغمر الحزن قلبه فكره الكلام، فما عاد يرى إلا في بحران من التفكير، اللهم إلا حين يفتح القرآن ويجود آياته؛ فإن قلبه ينعم بالإيمان، فما تتبدد آلام نفسه ولا يسكن قلقه إلا في نشوة ترتيل سور المصحف الكريم.
وراحت الحياة تجمد حول تلك الخيمة، وكثف ظل الموت واسود، ورئيفة تهبط نحو الفناء ببطء وألم، ومحمد يتهدم ويحزن ويجود القرآن.
وذات ظهيرة، إذ كان المخيم ينتظر عودة الأستاذ الأميركي من دمشق، ظهرت سيارته القديمة تتبعها قافلة من سيارات، وسرعان ما نزل منها جمع من صحافيين ومصورين، يترفه بينهم في الوطء على الثرى بعض كبار موظفي الدولة السورية، وأقبلوا على محمد يهنئونه ويهزون يده بحماس. وفي الوهلة الأولى، ظن محمد أنه انتقل إلى عالم المجانين، أو أن أحد مجاني دمشق قسا عليه بأضحوكة جديدة . ولكن الأستاذ الأميركي تقدم ووضع يده برفق على كتف محمد وقال: «لقد اقترفت نحوك إثم السرقة؛ فإني كنت أبصر بك قرب هذا السراج في الليالي وأراك جادا في الكتابة، وصرت أترقب انصرافك فأسرق - على علم من رئيفة - ما تكتبه، فأنسخه حتى اكتملت روايتك «عنترة والنفط». لقد أرسلتها إلى هوليوود فاشتروها. إنما أحدثوا فيها تغييرا. لا أدري إن كنت تذكر ما ألفت؛ فأنا أعيده عليك: كبير مهندسي شركة نفط أميركية - وهو كذلك أعظم مساهم فيها - يستضيف شيخ قبيلة عربية في الصحراء، يكتشف الزيت ويشتري، بل يكاد يستوهب الشيخ امتياز استغلال الزيت لقاء ثمن بخس. تأتي ألوف العمال، وترسل ألوف المعدات، وبعد الحفر يجدون أوقيانوسا من نفط فيفرزون القساطل، وفيما هم يهمون باستخراج النفط، يظهر طيف عنترة فيجوف رمحه ويشكه بالبئر فينتزع كل النفط ويفرغه بظرف صغير، ويضع الظرف وراءه على حصانه وينصرف كما أتى شبحا لا يراه إلا رئيس المهندسين الأميركي.
وهكذا كلما حفر المهندس بئرا وظفر بالنفط، جاء عنترة فامتص النفط برمحه إلى ظرفه، واحتمله على جواده ومضى.
وطبيعي أن تضطرب أمور الشركة الأميركية المستثمرة وتهتز ماليتها ويدب الذعر في قلوب مساهميها، وتستبدل المهندس بآخر ثم بغيره وغيره، فما أفاد التبديل، بل استمرت الآبار تطفو بالنفط ثم تجف. وكان أن توفي الشيخ وتولى زعامة القبيلة ابنه، وهو فتى عالي الدراسة، ففتش بين أغراض أبيه عن نسخة من اتفاقية النفط فلم يجدها، وطلبها من الشركة ففتحوا صندوقهم وانتزعوها فإذا هي بيضاء إلا آخر ورقة منها كانت خالية من الكلمات ولم يظهر عليها إلا صورة عنترة وحصانه ورمحه وظرفه.
وليس الأميركان من الذين يؤمنون بالسحر أو الأعاجيب، ولا هم من الذين يفرون من مواجهة الحقائق، فأدركوا أن كل ما في الأمر أنهم يملكون معدات ثمنها ملايين نثروها في أرض نائية غريبة، وأنهم أنفقوا الملايين في محاولة استغلال مشروع لا تحمي حقوقهم فيه عقود مقاولة. فأسرع رئيس الشركة إلى ابن شيخ القبيلة ونفحه اتفاقية سخت شروطها على ابن الشيخ، فصار الأميركان متى ظفروا بالزيت قدروا على استخراجه من غير أن يسبقهم إليه عنترة. وكان خلال ذلك - وهنا ظهرت أصابع هوليوود - قد اشتبكت عواطف ابن الشيخ في معركة غرامية؛ أحب ابنة رئيس الشركة، وزهد في النفط والخيام والثقافة، بل ترك أمور القبيلة لأخيه الأصغر، ووثب مع فتاته إلى خلف عنترة، وراح جواد هذا يعدو بالثلاثة وبالظرف الفارغ إلى الواحة الكبرى في قلب الصحراء، تلك التي يحجبها السراب ولا يسكنها إلا كل من رضي عنه عنترة.»
وفيما كان الأستاذ الأميركي يروي مختصر رواية «عنترة والنفط» كان الصحافيون يدونون الملاحظات، والمصورون يلتقطون الصور. وعاد الأستاذ إلى الكلام: «هذه المرة لم نقترف غلطة «صرعت الموت»، فسلطنا عدسة المكرسكوب على كل حرف من سطور الاتفاقية ولم نوقع من غير أن نقرأ. في الأسبوع القادم، ستحتفل هوليوود بعرض فلم «عنترة»، وسيكون محمد الفرار هناك ليساهم بالحفلة، وليتسلم مائة ألف دولار ثمن روايته.»
أما محمد فكان يسمع ويرى ولا يدري ما الذي يجري حوله، غير أنه استفاق عند سماع خبر سفرته إلى هوليوود وعلق بصره بتلك المضطجعة على السرير فآلمه أن يرى ذلك الوجه الشاحب وقد تهدل جلد ساعدها فبانت عظامه، حتى ليحسب الناظر إليها أنها ميتة لو لم تكن عيناها نجمتين بالحياة تسطعان.
وعبثا تضرع الأستاذ الأميركي، وتشفعت رئيفة، ورجا صحافيو دمشق أن في ظهوره شرفا للعرب، فكان محمد يجيب أن ما يشده إلى سرير رئيفة هو شيء أثمن من الشرف، وأحب من الشهرة، وليس من شيء يغريه بترك الخيمة.
صفحة غير معروفة