موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

جمال الدين القاسمي ت. 1332 هجري
110

موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

محقق

مأمون بن محيي الدين الجنان

الناشر

دار الكتب العلمية

يَعْرِفْ، وَإِنْ عَرَفَ فَسَيُرَوِّجُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَيَتَرَدَّدُ فِي الْأَيْدِي وَيَعُمُّ الضَّرَرُ وَيَتَّسِعُ الْفَسَادُ وَيَكُونُ وِزْرُ الْكُلِّ وَوَبَالُهُ رَاجِعًا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَتَحَ هَذَا الْبَابَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: «إِنْفَاقُ دِرْهَمِ زَيْفٍ أَشَدُّ مِنْ سَرِقَةِ مِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ السَّرِقَةَ مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تَمَّتْ وَانْقَطَعَتْ» . وَإِنْفَاقُ الزَّيْفِ قَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ مِائَتَيْ سَنَةٍ إِلَى أَنْ يَفْنَى ذَلِكَ الدِّرْهَمُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ مَا فَسَدَ مِنْ نَقْصِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَطُوبَى لِمَنْ إِذَا مَاتَ مَاتَتْ مَعَهُ ذُنُوبُهُ، وَالْوَيْلُ الطَّوِيلُ لِمَنْ يَمُوتُ وَتَبْقَى ذُنُوبُهُ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ يُعَذَّبُ بِهَا فِي قَبْرِهِ وَيُسْأَلُ عَنْهَا إِلَى آخِرِ انْقِرَاضِهَا، قَالَ تَعَالَى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) [يس: ١٢] أَيْ نَكْتُبُ أَيْضًا مَا أَخَّرُوهُ مِنْ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ كَمَا نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوهُ، وَفِي مِثْلِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [الْقِيَامَةِ: ١٣] وَإِنَّمَا أَخَّرَ آثَارَ أَعْمَالِهِ مِنْ سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ عَمِلَ بِهَا غَيْرُهُ. وَفِي الزَّيْفِ أُمُورٌ: مِنْهَا أَنَّهُ إِذَا رُدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرَحَهُ فِي بِئْرٍ بِحَيْثُ لَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ الْيَدُ، وَإِيَّاهُ أَنْ يُرَوِّجَهُ فِي بَيْعٍ آخَرَ، فَإِنْ أَفْسَدَهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّعَامُلُ جَازَ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى التَّاجِرِ تَعَلُّمُ النَّقْدِ لِئَلَّا يُسَلِّمَ إِلَى أَحَدٍ زَيْفًا وَهُوَ لَا يَدْرِي فَيَكُونَ آثِمًا بِتَقْصِيرِهِ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، فَلِكُلِّ عَمَلٍ عِلْمٌ بِهِ يَتِمُّ نُصْحُ الْمُسْلِمِينَ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي مَالِهِ قِطْعَةٌ نَقْرَتُهَا نَاقِصَةٌ عَنْ نَقْدِ الْبَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ مُعَامِلَهُ وَأَنْ لَا يُعَامِلَ بِهِ إِلَّا مَنْ لَا يَسْتَحِلُّ التَّرْوِيجَ فِي جُمْلَةِ النَّقْدِ بِطَرِيقِ التَّلْبِيسِ، فَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ فَتَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَى الْفَسَادِ فَهُوَ كَبَيْعِ الْعِنَبِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا وَذَلِكَ مَحْظُورٌ وَإِعَانَةٌ عَلَى الشَّرِّ وَمُشَارَكَةٌ فِيهِ، وَسُلُوكُ طَرِيقِ الْحَقِّ بِمِثَالِ هَذَا فِي التِّجَارَةِ أَشَدُّ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّخَلِّي لَهَا. الْقِسْمُ الثَّانِي مَا يَخُصُّ ضَرَرُهُ الْمُعَامِلَ: فَكُلُّ مَا يَسْتَضِرُّ بِهِ الْمُعَامِلُ فَهُوَ ظُلْمٌ وَإِنَّمَا الْعَدْلُ بِأَنْ لَا يَضُرَّ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَالضَّابِطُ الْكُلِّيُّ فِيهِ أَنْ لَا يُحِبَّ لِأَخِيهِ إِلَّا مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، فَكُلُّ مَا عُومِلَ بِهِ وَشَقَّ عَلَيْهِ وَثَقُلَ عَلَى قَلْبِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَامِلَ غَيْرَهُ بِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ دِرْهَمُهُ وَدِرْهَمُ غَيْرِهِ، هَذِهِ جُمْلَتُهُ، وَأَمَّا تَفْصِيلُهُ فَفِي أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُثْنِيَ عَلَى السِّلْعَةِ بِمَا لَيْسَ فِيهَا لِأَنَّهُ كَذِبٌ فَإِنْ قَبِلَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ فَهُوَ تَلْبِيسٌ وَظُلْمٌ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَهُوَ كَذِبٌ وَإِسْقَاطُ مُرُوءَةٍ. وَأَمَّا الثَّنَاءُ عَلَى السِّلْعَةِ بِذِكْرِ الْقَدْرِ الْمَوْجُودِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ وَإِطْنَابٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ جَاءَ بِالْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى عُرْضَةً لِأَيْمَانِهِ وَقَدْ أَسَاءَ فِيهِ إِذِ الدُّنْيَا أَخَسُّ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ تَرْوِيجَهَا بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَفِي الْخَبَرِ: " وَيْلٌ لِلتَّاجِرِ مِنْ: بَلَى وَاللَّهِ وَلَا وَاللَّهِ وَوَيْلٌ لِلصَّانِعِ مِنْ غَدٍ وَبَعْدَ غَدٍ ". وَفِي الْخَبَرِ: الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ مُنْفِقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْكَسْبِ.

1 / 113