55

ففي عصر الميلاد «ترقبت النفوس بشائر الدعوة الإلهية من كل جانب كما يترقب الراصدون كوكبا حان موعد طلوعه»، وكان موعد الألف الرابعة من تاريخ الخليقة موعدا مقدورا في عرف الأكثرين لظهور المخلص الموعود.

وكان اليهود في عصر الميلاد فريقين: فريق يترقب الخلاص على يد رسول من ذرية داود - عليه السلام - وفريق آخر، وهم السامريون، بنوا لهم هيكلا خاصا في جرزيم «ومن المحقق أن هؤلاء السامريين كان لهم شأن في تطور الفكرة المسيحية، أو فكرة الخلاص المنتظر على يد الرسول الموعود ... وهم ينتسبون إلى يعقوب، ويدعون أنهم دون غيرهم الجديرون باسم الإسرائيليين ...»

وقد تكاثر النذيرون قبيل مولد المسيح، وهم المنذورون لصحبة المخلص المنتظر؛ لأن مولده عليه السلام «وافق نهاية الألف الرابعة من بدء الخليقة على حساب التقويم العبري»، وهو الموعد الذي كان منتظرا لبعثة المسيح الموعود؛ لأنهم كانوا ينتظرونه على رأس كل ألف سنة، ومنهم من كان يقول: إن اليوم الإلهي كان ألف سنة كما جاء في المزامير.

وإن عمر الدنيا أسبوع إلهي تنقضي ستة أيام منه في العناء والشقاء، ويأتي اليوم السابع بعد ذلك كما يأتي يوم السبت للراحة والسكينة، فيدوم ألف سنة كاملة هي فترة الخير والسلام قبل فناء العالم، ولا يزال الغربيون يعرفونها باسم الألفية

Millennium ، ويطلقونها على كل عصر موعود بالسعادة والسلام. والذين قدروا أن القيامة تقوم بعد سبعة آلاف سنة من بدء الخليقة كانوا يؤجلون قيام ملكوت السماء على الأرض إلى نهاية الألف السادسة، ويومئذ تسود دولة المسيح الموعود، لكنهم كانوا كغيرهم في انتظار رسول من عند الله كلما انتهت ألف سنة من بدء الخليقة.

وكانت بداءة الألف الخامسة موعدا منظورا أو منذورا يكثر فيه النذيرون، لعلهم يحسبون من جند الخلاص، أو لعل واحدا منهم يسعده القدر فيكتب الخلاص على يديه. والمهم في أمر النذيرين بالنسبة إلى السيد المسيح أن النبي يحيى المغتسل - يوحنا المعمدان - كان علما من أعلامهم المعدودين، وكان السيد المسيح يتعمد على يديه، أو يأخذ العهد عليه، وأن بعض المؤرخين يحسب السيد المسيح من النذيرين، ويلتبس عليه الأمر بين النذيري والناصري، وهما في اللفظ العبري متقاربان.

ومن هؤلاء المؤرخين من يزعم أنه لم يكن من الناصرة؛ بل يزعم أن الناصرة لم يكن لها وجود؛ لأنها لم تذكر قط في كتب العهد القديم، ولكن الأرجح في اعتقادنا أن الناصرة نفسها كانت تسمى نذيرة بمعنى الطليعة، عندما كانت على تخوم الأرض التي فتحها العبريون قديما، وأنها كانت مرقبا صالحا للاستطلاع؛ لأن التلول التي تحيط بها تكشف جبل الشيخ والكرمل والمرج المعروف باسم مرج ابن عمير ...

ولا شك أن السيد المسيح قد اتجه بدعوته إلى إسرائيل، وابتغى منها الهداية «لخراف بيت إسرائيل الضالة»، ولكنه عمم الدعوة بعد تكرارها على القوم ولجاجتهم في الإعراض عنها، فوجهها إلى كل مستمع لها مقبل عليها، وقال لهم: إن العاملين بالخير ذرية لإبراهيم الخليل أقرب وأوفى ممن يدعون النسبة إليه بالسلالة؛ لأنهم هم أبناؤه بالروح، وضرب لهم المثل بوليمة العرس التي لم يحضرها المدعوون إليها، «فغضب السيد وقال لعبده: اذهب عجلا إلى طرقات المدينة وأزقتها وهات إلي بمن تراه من المساكين، فعاد العبد وقال لسيده: قد فعلت كما أمرت ولا يزال في الرحبة مكان، قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتى يمتلئ بيتي، فلن يذوق عشائي أحد من أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا الدعاء.»

ولم تكن رسالة السيد المسيح رسالة تشريع؛ لأن الشريعة الدينية كانت في أيدي أحبار الهيكل، والشريعة الدنيوية كانت في أيدي أتباع قيصر، ولكنه عليه السلام قد جاء بالفتح المبين الذي لم يسبقه إليه سابق من المرسلين في تصحيح الشرائع بجملتها، فقد حطم عنها قيود النصوص، ونقلها إلى مقياسها الصحيح وهو مقياس الضمير، ومن تحطيم النصوص أن يكون أبناء النبي هم أتباعه بالروح، وإن لم يكونوا من ذريته بالجسد، ومن تحطيم النصوص كذلك أن يكون الخير في ضمير الإنسان لا في مظهر من مظاهر العالم؛ فإن ملك ضميره فقد ملك كل شيء، وإن ضيع ضميره لم يغن عنه العالم بما وسع من أناس وحطام. (2) رسالة النور الجديد

ومما تقدم تنجلي المطابقة بين النشأة والرسالة النبوية عن مقاصد ثلاثة تنطوي في هذه الرسالات: فمنها الرسالة التي تنطوي في تكاليف الزعامة، فتأتي الدعوة الإلهية لتمكين زعيم القوم من هدايتهم الروحية؛ لأنه مطالب بقيادتهم في جميع الشئون.

صفحة غير معروفة