ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل * فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين * ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون [المائدة: 12-14]. •••
هذه حالة النصرانية في الحجاز كما عهدها النبي - عليه السلام - قبل مبعثه، وهي بهذه المثابة من مقدمات رد الفعل لا من مقدمات التمهيد والتحضير، سواء كل ذلك في أمر النبي، أو أمر الحكماء من طلاب الهداية الذين عرفوا باسم المتحنفين أو المتحنثين.
وينبغي الاحتراس من قول القائلين: إن أحدا من أولئك المتحنفين أو الحنفاء تنصر أو تهود على مذهب مفصل مستوعب لعقائد النصرانية أو اليهودية، فكل ما يصح من أخبار الحنفاء أنهم كانوا يعرفون أن الإيمان بالإله الواحد أهدى وأحكم من الإيمان بالنصب والأوثان، ونحسب ابن هشام قد صدق الرواية حقا، حين قال عن أشهر هؤلاء المتحنفين زيد بن عمرو بن نفيل أنه «وقف، ولم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة، وقال أعبد رب إبراهيم ... وكان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده، ما أصبح منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك، ولكني لا أعلم».
ومثل ابن نفيل ورقة بن نوفل الذي قصدت إليه السيدة خديجة لتسأله عن جبريل الذي نطق النبي - عليه السلام - باسمه أمامها، فإنه كان يطيل القراءة في كتب اليهود والنصارى، ويعلم أن عبادة الأصنام ضلالة، فيلتمس الهداية في غيرها، ولا يستوفى العلم ولا الإيمان بأي الديانتين، وغاية الأمر في نصرانيته كما قال ابن هشام أنه «كان نصرانيا تتبع الكتب، وعلم من علم الناس» ... وقد ذكر عنه مع ثلاثة من أصحابه، أحدهم ابن نفيل، أنهم كانوا قد انصرفوا من عند صنم يعظمونه في يوم عيد، فقال بعضهم لبعض: «تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم. ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع يا قوم؟! التمسوا لأنفسكم؛ فإنكم والله ما أنتم على شيء.»
قال ابن هشام: فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم.
ونحن نعلم من القرآن الكريم أن المشركين كانوا يقولون: إنهم لم يعبدوا الأرباب والأوثان إلا ليقربوهم إلى الله زلفى، وسنرى في الكلام على الكعبة أن الحقبة التي سبقت بعثة النبي شهدت طوائف من المجتهدين في العبادة، منهم طائفة الحمس التي اختصت الحرم وحده بالتقديس، وتنسكت بضروب من العبادة لم يتبعها أحد من قبلهم في الجاهلية.
فقد كانت الحقبة إذن حقبة حائرة بين العبادات، ولم تكن عبادة منها لتستأثر بضمير صاحبها أو تغنيه عن النظر في غيرها. وقد كانت هذه الحيرة في جانب من جوانبها على الأقل أثرا من أثار الجامعة القومية، أو أثرا من آثار الشوق إلى ديانة جامعة غير ديانة الأصنام المتفرقة، لكل قبيلة من القبائل صنم تنفرد به أو تميزه بين زمرة الأصنام المشتركة.
فقد كانت القبائل تعبد أصنامها، ولم تكن بها حاجة إلى الاشتراك في عبادة واحدة تشملها، فلما وجدت هذه الحاجة لمسوا النقص في كل عبادة من عباداتهم، وذهب أصحاب النظر منهم يبحثون عن الدين الصالح، ويستلهمون من كلمة «بيت الله» قبسا يقربهم من الله، ومن ديانة رب البيت وبانيه إبراهيم - عليه السلام - وقديما نسب الحجازيون أنفسهم إلى إسماعيل بن إبراهيم، ونسبهم إليه أصحاب التوراة وعلماء الأنساب.
وإن أصدق وصف للحالة الدينية في عصر البعثة الدينية أنها حالة نقص في كل نحلة وكل عقيدة؛ فلم نعلم من أخبار الوثنية قط أنها كانت تستوعب المؤمن بها، وتمنعه أن يأخذ ببعض الشعائر من هنا، وأن يتقبل بعض الآراء من هناك، ولم تكن الحدود بين النحل والعادات الدينية متحجرة مستقرة على قرار لا يأذن بالتبديل والزيادة والتحوير، ولم يكن المتدين منهم جميعا يتنبه إلا الابتداع في أمر الدين، إلا أن يسومه الخروج على قومه، والزراية بشرعة الآباء والأسلاف، فيومئذ تنقلب المسألة من تصرف في الشعائر والآراء إلى النخوة العصبية، والغيرة على الأحساب والأنساب، وتصطدم البدعة الجديدة إذن بالعصبية القومية كلها في إبان اليقظة والطموح. وهذه الصدمة لم تفاجئ أبناء الجاهلية قط من نحلة يحكونها، أو يستجيبون لها بحكم المسايرة والمجاراة، وإنما فاجأتهم من دعوة الإسلام وحده، فتمردوا عليه ذهابا مع العصبية وتراث الحسب والنسب، ولم يتمردوا عليه ذيادا عن ملة شاملة تستأثر منهم بالضمائر والأفكار.
فالوحدة القومية مهدت للإسلام إلى حد محدود، ويسرت له الأمر بالتوقع والانتظار، ثم وقفت دون الغاية حين اصطدمت القومية بالدعوة الجديدة، ووجب أن تثوب الدعوة الجديدة إلى قوة أكبر من قوة القومية التي اعتز بها المشركون وخلطوها بما ألفوه من السيادة والمصلحة في التراث القديم.
صفحة غير معروفة