وكان في سعيهم للتأليب على هذه الدعوة بعض الأناة والحيطة قبل الهجرة النبوية إلى المدينة؛ لأنهم كانوا يتراوحون في مساعيهم بين الحذر من عاقبة الدعوة، وبين الأمل في القضاء على تجارة قريش وانفرادهم بعد قريش بتجارة الحجاز كله؛ من اليمن إلى مكة إلى المدينة إلى الشام. فلما هاجر المسلمون القرشيون إلى المدينة، وأقاموا لهم سوقا بجوار سوق اليهود، أرادوا أن يفسدوا كل ما صنعه الإسلام حتى الصلح بين الأوس والخزرج، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، واستيئسوا في الكيد والدس، ولم يحرصوا على شيء غير استبقاء الربح، والتأليب على كل إصلاح وكل مصالحة في غير هذا السبيل.
فإذا كان ليهود يثرب أثر في مقدمات الدعوة المحمدية، فهو أثر أسوأ من أثر الجاهليين في المقاومة والعناد، وإذا استفاد الباحث من تاريخ هؤلاء القوم توضيحا لتلك المقدمات، فإنما تأتي هذه الفائدة من جانب آخر لا فضل لهم فيه؛ فإنهم كانوا تصحيحا عمليا لأخطاء المستشرقين الذين أنكروا وحدة اللغة العربية قبل الإسلام في عصر المعلقات والقصائد الجاهلية.
ولقد كانت وحدة اللغة من مقدمات الدعوة الإسلامية التي خاطبت العرب جميعا بلسان يعرفونه من قبل عصر الإسلام، فجاء بعض المستشرقين بوهم من أوهامهم يشككون في وحدة هذه اللغة، وينكرون اتفاق الجزيرة على التخاطب بلسان القرشيين والمكيين، وزعموا أن وحدة هذه اللغة ممتنع لاختلاف لسان العدنانيين والقحطانيين.
فاليهود في يثرب أصدق جواب على هذه الأوهام؛ لأنهم غرباء عن الجزيرة العربية، دخلوها في القرن الأول أو الثاني للميلاد، ولا يجوز الشك في ذلك، ولا القول بأنهم عرب تهودوا، كما قال بعض المؤرخين على غير علم ولا روية فيما يصح أن يقال؛ فإن القول بذلك يستلزم منا أن نفرض أن العرب الأميين تطوعوا للتحول إلى اليهودية، ثم تعلموا العبرية وتفقهوا في كتب التوراة لينقطعوا عن أسلافهم، وينضووا إلى قوم مخذولين في بلادهم لا يسلمون لأحد من الأمم بأنه أهل للدخول معهم في عداد شعب الله المختار؛ فهذا من أغرب الفروض التي لا تثبت بغير دليل قاطع، فضلا عن الثبوت بغير دليل.
وليس في هجرة اليهود من فلسطين إلى بلاد العرب غرابة أو مناقضة لوقائع التاريخ بعد تشتيتهم في القرن الأول أو الثاني للميلاد، وقد كان مقامهم على الطريق بين تيماء والمدينة للتجارة والزراعة، والاشتغال بغير صناعات القبائل العربية أشبه شيء أن يكون على تلك الطريق خاصة دون الطريق الأخرى، التي يحميها النبط وقريش، ولا يستطيع اليهود المهاجرون أن يقتحموها على أصحابها وهم مشردون مستضعفون، مع العداء بينهم وبين النبطيين، وتعصب النبطيين على إسرائيل دينا ولغة وميلا في السياسة والولاء. وعلى جميع هذه الفروض التي لا تقبل الشك، تبقى هناك الحقيقة التي لا تختلف مع اختلاف القول في أصول يثرب وخيبر وفدك وتيماء ووادي القرى على الإجمال.
فهل هؤلاء عرب يكتبون؟
لو كانوا كذلك لقد كانوا خلقاء أن يحفظوا في صحفهم كلاما عربيا مما قبل الإسلام بثلاثة قرون يخالف العربية الموحدة في عصر الإسلام، إن صح أن العربية لم تكن موحدة في أيام شعراء المعلقات، وبعض هؤلاء الشعراء لم يسبقوا عصر الإسلام بأكثر من مائة عام.
وكانوا خلقاء أن يحفظوا بالكتابة العبرية لهجة غير اللهجة الموحدة، التي يشك المستشرقون في سبقها للإسلام إلى عصر أولئك الشعراء، أو كانوا خلقاء أن نعلم من كتابتهم شيئا يؤيد ذلك الشك نوعا من التأييد.
أما إذا كانوا على القول الراجح - بل القاطع - يهودا دخلوا الجزيرة بلسان غير لسانها، وتكلموا الآرامية أو الأدومية أو العبرية، ثم تعلموا اللغة العربية الحجازية، فهذا التوحيد الذي تم بين اللغة الحجازية وبين الآرامية أو الأدومية أو العبرية ليس بالمستغرب أن يتم بين لهجة العرب في الجنوب، ولهجة العرب في الحجاز وسائر أطراف الجزيرة، فقد أقام عرب اليمن في الجزيرة واتصلوا بالحجاز زمنا أطول جدا من مقام اليهود المهاجرين منذ القرن الأول أو الثاني للميلاد.
ولم يصل إلينا شيء من لغة اليهود الذين أقاموا بجنوب الجزيرة، أو اليهود الذين تحالف معهم ذو نواس في نجران، ولكن اليهود الذين وفدوا إلى الحجاز بعد البعثة النبوية كان منهم كتاب ومؤرخون مطلعون على تواريخ حمير وتواريخ أسلافهم العبرانيين، وكان منهم كعب بن ماتع الحميري الملقب بكعب الأحبار، وكان منهم وهب بن منبه الصنعاني، الذي قال ابن خلكان: إنه رأى كتابا له عن ملوك حمير وأخبارهم وأشعارهم في مجلد واحد. ووصف هذا الكتاب بأنه مفيد.
صفحة غير معروفة