والأغلب على الظن أن المجوسية شاعت في هذه القبائل لأنها كانت سهلة هينة عليهم، لا تكلفهم بناء الهياكل ولا نحت الأصنام، ولا ينكرون في عبادتهم للنار شيئا؛ لأن إشعال النيران للقرى والاستسقاء وإشهار الحلف لم تكن مجهولة في البادية العربية، ولعلهم سبقوها إلى عبادة بعض الكواكب؛ لأنهم كانوا أحوج إلى رصد الأنواء والاهتداء بالنجم في سفر الليل، حتى جعلوا له اسما خاصا من السرى والإدلاج وغيرهما من الرحلة في سائر أوقات الظلام.
ولعل أحدا منهم لم يكن يلتفت إلى مجوسية المجوس؛ إلا حين يحدث الزواج بالمحارم التي لا يحلها عامة العرب، فأما فيما عدا ذلك فقد كانت مراسم الدين عادات كغيرها من عادات البداوة في الأعراس والمآتم، وتعظيم الأسلاف والأرواح، لا ينكرها المجوسي ولا اليهودي ولا النصراني من عرب الجاهلية.
وإذا كان عرب البحرين قد عرفوا المجوسية، فقد عرفوا الصابئين الذين كانوا يقيمون على مقربة من بلادهم، ولكنهم لم يقتدوا بهم في عقيدتهم لكثرة قيودها وأشراطها، وكتمان الصابئين ما كانوا يؤمنون به مخالفا لمن حولهم، وقد كانوا يخالفون كل دين في أشياء ويحالفونه في أشياء، ويجنحون إلى العزلة والاعتكاف، فلا يصل إلى أسرارهم إلا من تعمد البحث عنها والنفاذ إليها من طلاب المعرفة والمتنسكين والمتحنفين، والظاهر من أصول كتابتهم النبطية أن الصلة بينهم وبين نبط الحجاز الشمالي عن طريق العراق والعقبة، كانت أوثق وأقرب من صلاتهم بسكان البحرين والشواطئ اليمانية، ولهذا وجد فيهم من ينتمي إلى جد يسمونه كاظم بن تارح، يزعمون أنه أخو إبراهيم الخليل.
وكيفما كانت علاقة العرب بموطن الصابئة، فلم توجد بين العرب قبيلة كبيرة تدين بملة الصابئة كما دانت تميم بالمجوسية؛ لأنه هذه الملة الصابئية بطبيعتها لا تنتقل إلى طائفة كبيرة بعيدة من موطنها على موارد الماء، وإنما ينتقل إليها فرد أو أفراد يفضلون عقيدتها على العقائد الوثنية من حولها. ولا يخفى شأن الارتباط بالمكان في العقيدة الصابئية؛ فإن اشتراط القرب من الماء فريضة من فرائضهم العامة، واسمهم الأول في أصله مأخوذ من سبح لا من سبأ التي ينتمي إليها بعض قبائل اليمن، ولا من صبأ بمعنى ارتد عن الدين، وذلك أرجح الآراء فيما قيل عن أصول هذه الأسماء.
وكانت اليهودية أعم انتشارا في الجزيرة العربية من المجوسية؛ لأن المجوسية بقيت محصورة في عشائر من العرب من سكان بين البحرين، ولكن اليهود كانوا يهاجرون بجملة قبائلهم من أرض كنعان كلما أصابهم القمع والتشريد من فاتح جديد، وقد هاجر بنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل جملة واحدة إلى يثرب على رواية الأغاني «بعد أن ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعا بالشام».
قال صاحب الأغاني: «لما قدم بنو النضير وقريظة وبهدل المدينة نزلوا الغابة، فوجدوها وبيئة فكرهوها، وبعثوا رائدا أمروه أن يلتمس لهم منزلا سواها، فخرج حتى أتى العالية - وهي بطحان ومهزور - واديان من حرة على تلاع أرض عذية بها مياه عذبة تنبت حر الشجر، فرجع إليهم فقال: قد وجدت لكم بلدا طيبا نزها إلى حرة، يصب فيها واديان على تلاع عذية ومدرة طيبة في متأخر الحرة، فتحول القوم إليها من منزلهم ذلك.
فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان، وكانت لهم إبل نواعم فاتخذوها أموالا، ونزلت قريظة وبهدل ومن معهم على مهزور، فكانت لهم تلاعة وما سقى من بعاث وسموات، فكان ممن يسكن المدينة، حتى نزلها الأوس والخزرج، من قبائل بني إسرائيل بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو قينقاع وبنو زيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو الفصيص، فكان يسكن يثرب جماعة من أبناء اليهود فيهم الشرف والثروة والعز على سائر اليهود ... وكان هناك معهم من غير بني إسرائيل بطون من العرب، منهم بنو الحرمان حي من اليمن، وبنو مرتد حي من بلى، وبنو نيف حي من بلى أيضا، وبنو معاوية حي من بني سليم ثم من بني الحارث بن بهثة، وبنو الشطبة حي من غسان.»
ولم ينزل اليهود بغير المدن والقرى التي تحميهم فيها الآطام والأبنية.
فنزلوا تيماء وفدك وخيبر، واشتغلوا بالتجارة والصناعة في المدن، وزرعوا الأرض حولها للمرعى والاتجار بمحاصيلها، واختاروا من التجارة أيسرها على غير المحاربين؛ لأنهم لم يقدروا على حراسة القوافل الكبيرة التي كانت تحمل أحيانا - كما جاء في الطبري - على أكثر من ألفي جمل، فاستغلوا المال، وشاركوا في قروض الربا والوساطات، ولم ينسوا قط أنهم غرباء في بلد غريب، واجتنبوا المزاحمة في التجارة، فلم يكن لهم شأن بمكة دون سائر المدن؛ لأنها كانت مستقلة بالتجارة على طريقها في أيدي قريش، ولكن يقال في روايات غير حاسمة: إن بطونا من نمير وكنانة وكندة وبني الحارث عرفت اليهودية من جوارها لطريق المدن التي سكنها اليهود.
وموضع النظر الكثير ما يقال عن دخول اليهودية إلى اليمن، وقيام دولة يهودية فيها بإمرة زرعة المكني بذي نواس؛ فلا خلاف في وجود اليهود بين عرب الجنوب من أهل اليمن، ولكن الخلاف في تاريخ دخول اليهودية تلك البلاد ووسيلة دخولها؛ لأن المعهود في بني إسرائيل المتأخرين أنهم كانوا لا يدعون أحدا إلى دخول دينهم؛ لإيثارهم أنفسهم بوعد إبراهيم الخليل، وحصر هذا الوعد في ذرية إسحاق بن يعقوب.
صفحة غير معروفة