تاريخ العالم كله - قبيل عصر الدعوة الإسلامية - هو تاريخ هذه المقدمات حول بلاد العرب، وفي صميم الجزيرة العربية من أجوافها إلى أطرافها.
فلم يكن للعالم كله في تلك الفترة حالة لا توصف بالسوء، ولا يقال فيها بالإجمال: إنها حالة فساد وانحلال.
فلا حالة للعلم ولا للسياسة ولا للأخلاق ولا للمرافق العامة لا توصف بتلك الصفة، ولا تغلب فيها السيئات كل الغلب على الحسنات.
وإذا نظرنا إلى الأحوال في جملتها وجدنا أنها هي الأحوال التي تنادي في كل مكان بالحاجة إلى الدعوة الدينية.
إن ظاهرة واحدة كانت تلف تلك الظواهر جميعا في طياتها، وهي فقدان الثقة بكل شيء، ولا معنى لذلك في كلمة موجزة، إلا أن الثقة هي المطلوبة، وأن الإيمان هو دواء هذا الداء الذي استشرى في كل مكان.
ونبدأ بالأديان الكبرى التي شاعت في العالم المعمور قبيل الدعوة المحمدية، وهي على حسب قدمها: المجوسية واليهودية والمسيحية.
المجوسية
فلم يكن أتباع دين من هذه الأديان على استقرار في عقيدتهم، أو على ثقة بأحبارهم وأئمتهم، وأولها وأشدها اضطرابا ديانة الدولة الفارسية أو دياناتها المتعددة التي تشملها الثنوية؛ أي الإيمان برب للنور ورب للظلام، وعالم للخير وعالم للشر في كون واحد.
فقد كانت هذه المجوسية تستعصي على الدعاة المصلحين من أيام الوثنية الآرية الأولى التي اشترك فيها الهنود والفارسيون، وقد عمل «زرادشت» جهده لتطهيرها من الوثنية، وإخلائها من شعائر الهياكل والمحاريب الخفية، فلم يتيسر له من ذلك غير القليل، وجاء بعده مصلحون من أتباعه مزجوا الفلك بالتنجيم بالخرافة بالعبادة في نحلة واحدة، ولم يعرف الناس عنهم على البعد إلى عصر الميلاد المسيحي إلا أنهم رصدة للكواكب، طلعة للخفايا والغيوب من وراء حجاب الظلام.
وقام «ماني» الذي تنسب إليه المانوية في القرن الثالث للميلاد، فأراد أن يغلق باب الوثنية في الشرق، ويرجع إلى ثنوية قريبة من ثنوية «زرادشت» وتوحيد الفلسفة العقلية، فحول قومه من الكتابة البهلوية إلى الكتابة الآرامية أو السامية، وكاد أن يفلح في إقناع ولاة الأمر بآرائه في الإصلاح والتنزيه لو لم تفسدهم عليه دسائس الكهان والوزراء، فقضى في السجن، وقيل: إنهم سلخوا جلده وعلقوه مصلوبا لسباع الطير.
صفحة غير معروفة