من الغيظ. فلم نزل ذلك اليوم في شغل شاغل حتى جمعنا بين طرفي البكر والأصائل، وولى ذلك النهار الطائل وعطفه في الثوب القصير رافل، وأخذت الشمس في الاصفرار من ذلك المنظر المهول، وعزمت على الفرار وصممت على الأفول، فنزلنا حينئذٍ بمرج متسع قاطع قلعة المركز، قد ألبسه الربيع ثيابًا سُنْدسيّة طرَّفها بأنواع الزهر وطرز، وسحب عليه النسيم أذياله، فاكتست من عرفه شذا، وجرت في خلاله عيون كالأنهار سالمة من الكدر والقذا، ودارت كاسات رحيقها فانتشى الغصن مستنبذًا، وروى العشب واغتذا، وجاوره البحر المالح فلم يحصل له بمجاورته أذى، فبتنا بتلك البقعة المتسعة ليلة سابع شوال وهي ليلة الجمعة، ورحلنا منها عندما اكتهل الليل وشاب، وأقبل النهار يخطر في برود الشباب، وغردت الحمائم على أعوادها، وأعربت بعجمتها عما أكنته من الشجو في فؤادها، فأثارت تباريح أشجان لم تبرح، وأفاضت مياه أجفان لم تنزح، وترنمت متمثلًا في تلك البقاع بقول عَدِيّ ابن زَيْد المعروف بابن الرِّقَاع العامِليّ:
ومما شجاني أننَّي كنتُ نائمًا ... أعلَّل من بَرْدِ الكرى بالتنسمِ
إلى أن دَعتْ ورقاء في غصنِ أيكةٍ ... تُرددُ مبكاها بحُسْنِ الترنمِ
ولما تلاقينا وجدتُ بنانها ... مخضبةً تحكى عُصَارةَ عَنْدَمِ
فقلت خضبتِ الكفَّ بعدي هكذا ... ولم تحفظي عهدَ المشوقِ المتيمِ
فقالت وأذكتْ في الحَشَا لاعج الهوى ... مقالة مَنْ بالودِ لم يتبرَمِ
1 / 85