وقف جدي في ذاك الوقت، وصار يلوح في الهواء بيده، كأنه يقاتل الجدار، يحمله، يركله، يحطمه، ويبتسم، ويقول: «هل تشاهدين ذاك الزائر الرمادي الوقح؟ وهل تعرفين ذاك المجهول الذي ينقر بأصابعه النحيلة أبوابنا كلما هبط الظلام؟ هل ترين ذاك المدى الشاسع الذي يبتلعه من فضاء هوائنا؟ هذا الجدار سيأتي لنا بالخفافيش. انظري إلى ذاك الرمادي، هل تعرفين من يكون؟ إنه الحزن حين يفرض نفسه علينا! لا تنظري إلى عينيه، ولا تصغي إلى صوت ضعفك، وإلى أصوات الوهم من حولك.»
لم أسمع صوت جدي في هذه اللحظة، لم يقل شيئا، لم ينطق كلمة، لكني تعمدت الإصغاء إلى قلبه، وسمعت كل شيء.
خيل إلي وهو واقف أمامي، أنه الدون كيشوت، الذي استمر زمنا طويلا يحارب طواحين الهواء بعد أن اختار لنفسه هيئة فارس، ولم يتمكن من الانسجام مع واقعه، وذهب في مغامرات وهمية لمحاربة الشر.
لكن جدي لن يذهب بعيدا، وسيحارب معنا هذا النزيل ثقيل الدم.
سنحارب طواحين الهواء، عندما نقف أمامها، ونجعلها وهما، وستمضي، وستنمو في أعماقنا، وفي جلودنا أحلام رحيلها عنا، ولن نغفل عن رؤية الحقيقة حين تكسوها ألوان العتمة.
أيها الجدار! اليوم أخذت نصف مزرعتنا، وجدتي، لو غفلنا ستأخذ هويتنا وأحلامنا. سنصبر ونشهر سيوفنا لنحمي ذاك النقاء من الغربان التي تفترس ضوء النهار، وتلبس أقنعة الخداع.
بلوتو
جدتي كنز تحت الأرض، جدتي كل الثروات، لو نقصت مساحة الزراعة لزرعنا مساحات الذاكرة وسهول حبها.
طقم الأسنان السفلي، الخاتم الذهبي، كيس الحناء الكستنائي، المنديل المطرز بخيوط الحرير الزرقاء، علبة الكحل النحاسية، مشط العاج، بقايا العطر في علبة الألمنيوم، المرآة الصغيرة المكسرة الأطراف، العقد الفضي الرفيع، والصورة القديمة لجدتي. هذه الصورة التقطت لجدتي حين أصدرت لها بطاقة شخصية، لم يحدد عمر جدتي ولا جدي. كانا يقولان ولدنا بعد الثلج، وجدتي تقول ولدنا أيام الإنجليز في بلادنا. جدي يصر أنه كان يرى أباه، وهو جندي في عهد تركيا، ولكن حين أصدرت بطاقات الهوية، وضع لجدتي سنة الولادة ألف وتسع مائة وثلاثون.
كل هذه الأشياء، آخر ما تبقى منها، متروكة فوق كرسي قش فاخر. هذا الكرسي لم يعرف صانعيه أيضا، ويبدو أنه قديم جدا من ازدحام المسامير في أخشابه.
صفحة غير معروفة