لم يصب الهدف
هذا هو النقد الأساسي الذي يمكن أن يوجه إلى هذه المسرحية التي أراد شوقي أن يمجد فيها روح الفداء والوطنية المصرية، ممثلة في فتاة من سلالة الفراعنة، ولكنه لم يصب الهدف كما لم يصبه عندما حاول في «مصرع كليوباترة» أن يرد إلى تلك الملكة اليونانية - التي جلست على عرش مصر - اعتبارها، وأن يثير فينا العطف عليها، بل والإعجاب بها.
والآن ما سر إخفاق شوقي؟ أهو في عدم ملاءمة موضوعات مسرحياته للهدف الوطني الذي قصد إليه؟ أم هو في عدم توفيقه في استخدام أحداث التاريخ، واتخاذها وسيلة إلى تصوير شخصياته على النحو الذي أراد؟ أم هو أخيرا تركه الهدف الوطني يطغى على الحقائق الإنسانية والعناصر النفسية، التي لم يكن بد من تجليتها، والغوص وراءها؛ حتى يكتسب مسرحه قيمة إنسانية وأدبية خالدة؟!
هذه كلها أسئلة نترك الإجابة عليها إلى ما بعد فراغنا من الحديث عن مسرحياته التي استقاها من تاريخ العرب وهي: «مجنون ليلى» و«عنترة» و«أميرة الأندلس».
مجنون ليلى
استعرضنا فيما سبق مسرحيات شوقي التي استمد موضوعاتها من تاريخ مصر، وهي «علي بك الكبير» و«مصرع كليوباترة» و«قمبيز»، وأوضحنا إلى أي حد استطاع شاعرنا العظيم أن يحقق ما هدف إليه من كل من هذه المسرحيات.
ونعرض الآن للمسرحيات التي استقاها من تاريخ العرب، وأول هذه المسرحيات هي «مجنون ليلى»، وهنا نلاحظ أن شوقي لم يختر هذا الموضوع من التاريخ الحقيقي، بل من التاريخ الأسطوري، فقصة المجنون وليلى لا تعتبر تاريخا، بل قصة شعبية، تكاد تكون رمزا لجميع قصص الغرام أو الهوى العذري، الذي تفشى في الحجاز في صدر الدولة الأموية؛ لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية، يعرفها مؤرخو الأدب العربي، ولقد سبق للدكتور طه حسين أن كتب منذ ربع قرن سلسلة من المقالات عن هذا الهوى العذري الحجازي جمعها في الجزء الثاني من «أحاديث الأربعاء»، وفيها ينكر وجود قيس بن الملوح المشهور بالمجنون إنكارا مطلقا، معتمدا على ما في قصته من تناقض وإحالة وأحاديث خرافة، وهو في هذا الإنكار غير مبتكر، فقد شكك أكبر مصدر لهذه القصة، وهو «الأصفهاني» مؤلف كتاب «الأغاني»، في هذه القصة وتفاصيلها التي يرويها بكل حذر واحتياط.
ولم يكن شوقي إذن في مجال التاريخ عندما يعالج هذه القصة، وإنما كان في مجال القصة الخيالية، أو الأسطورة الشعبية، وكان باستطاعته أن يطلق لخياله العنان في تصوير الشخصيات، وإبراز سماتها النفسية وخصائصها الروحية، كما كان باستطاعته أن يتصرف في الأحداث التي تكون الحركة المسرحية تبعا للهدف الذي اختاره، والقيم الإنسانية التي يريد أن يجلوها في مسرحيته، وإن يحرك بها نفوس القارئين أو المشاهدين.
لقد كان شوقي يستطيع - لو واتته القدرة - أن يخلق في الأدب العربي الحديث من قصة المجنون وليلى، مسرحية إنسانية عاتية تشبه «روميو وجولييت»، التي خلقها شكسبير في الأدب الإنجليزي، وموضوع القصتين شديد الشبه، فكل منهما يدور حول حب فتى لفتاة، ثم قيام عوائق أمام هذا الحب العارم الذي يسعى إلى الزواج، وإذا كان شكسبير قد أرجع هذه العوائق إلى عداوة متأصلة بين أسرتي العاشقين، فإن العوائق في قصة مجنون ليلى تعود إلى عادات وتقاليد اجتماعية، ليست أقل استبدادا بالنفوس وسيطرة عليها من العداوات التي تقوم بين الأسر، بحيث يتسع المجال في الحالتين لذلك الصراع النفسي العنيف، الذي اتخذ منه شكسبير سبيلا إلى سبر أعماق النفس البشرية، وإظهار قواها الخفية العنيفة المتمردة، وبخاصة إذا ذكرنا أن الدراسات النفسية كانت قد تقدمت في عصر شوقي تقدما كبيرا، كان باستطاعته أن يفيد منه، إذا أعوزه الاستبطان الذاتي، والخيال الخالق المدرك، ولكن شوقي الشاعر الغنائي الموهوب كان، لسوء الحظ، لا يملك شيئا مما تميز به شكسبير من نفاذ البصيرة وتحليق الخيال، كما أن حصيلته من الثقافة الإنسانية العامة كانت ضحلة؛ ولذلك لم يستطع أن يعيد خلق هذه الأسطورة الأدبية على نحو ما أعاد شكسبير خلق أسطورة «روميو وجولييت»، بل نراه يتقيد في مسرحيته بالكثير من التفاصيل التافهة أو الخرافية التي يرويها صاحب «الأغاني»، حتى رأينا ناقدا كالأستاذ إدوار حنين يجمع في إحدى مقالاته التي نشرها في مجلة «المشرق» البيروتية عددا كبيرا من فقرات الأصفهاني ويردفها بأبيات شوقي، ليدلل على أن شاعرنا لم يعد صياغة تلك الأخبار والطرائف شعرا، بل إن مراجعة الأشعار التي تنسب إلى قيس بن الملوح في الأغاني تمكننا في سهولة من أن نرجع عدة مقطوعات من مسرحية شوقي إلى المجنون العربي القديم، وذلك عن طريق الاقتباس المباشر، كقصة المجنون مع الظبية، وهي التي مطلعها:
رأيت غزالا يرتعي وسط روضة
صفحة غير معروفة