وعلى الرغم من تمثيل الفرقة لهذه المسرحية أكثر من مرة طوال شهرين،
103
إلا أنها لم تحظ بالنقد إلا في فبراير 1917، عندما كتب «محمد إبراهيم» مقالة بجريدة «الأفكار» في 28 / 2 / 1917 نثبتها هنا كاملة؛ لأنها صورة حية لأحد عروض فرقة سلامة حجازي في آخر مواسمه المسرحية.
قال الكاتب:
إن جوق سيدنا الشيخ مفتون بحب هذه العذراء، ولكن لم يكن لديه من الهبات والوسائل ما يمكنه من إظهار هذا الافتتان الغريب والتقتل الكاذب، كذلك حضرة المعرب، فقد كان لا يقل عن الجوق افتتانا. شاهدته يروح جيئة وذهابا وسط البهو كأنه أحد القواد العظام يدير رحى معركة من أشد المعارك حمي وطيسها وتسعرت نارها. ولكن لم تكن تظهر على محياه هيئة ذلك القائد المفكر المدرك لحقيقة موقفه، بل كانت تبدو عليه آيات الاستسلام للفرح والبهجة، كأنه واثق من حسن نتيجة عمله. إن الرواية في شكلها الإفرنجي شائقة جليلة المغزى - كما يرى من معانيها الغامضة في الترجمة العربية - ولكن التعريب جاء فطمس نورها وأزال بهجتها. ولست أعني بهذا سقم اللغة أو ضعف التعريب، بل أعني بهذا ذلك الوجدان الراقي الذي يجب أن يكون خلة لاصقة بالمعرب، وذلك الخيال السامي وقوة العارضة وحسن التعبير، إلى غير ذلك مما يساعده على أن يلبس الرواية تلك الحلة المبهجة التي تناسب ذوق المسارح العربية. إن من يحظ بمشاهدة هذه الرواية على المسارح الغربية، ويشاهد تمثيلها بشكلها الحالي، يقف على مقدار البون الشاسع والفرق البين بين المشهدين. ليس على المعرب حرج إذا تصرف في بعض التحريف في مواقف الرواية؛ لا سيما الختامية منها، جاعلا ذوق الجمهور الشرقي يطيب عينيه، بشرط أن لا يذهب التبديل والتحريف برونق الرواية وحلاوتها. إن المواقف الختامية للمناظر على المسارح الإفرنكية تختلف اختلافا بينا عن الحالة التي تكون عليها في المسارح العربية. ففي بعض هذه المواقف على المسارح الغربية نرى أن الهدوء والسكينة أوفق من الثورة والحدة، بينما نراه في المسارح الشرقية يجب أن يكون عكس ذلك. أنا الذي كادت تخنقني العبرات أثناء تمثيل الفصل الرابع وجدت نفسي أضحك مقهقها في نهايته؛ لأني خلت أن الفصل لم ينته، وأن الستار نزل عرضا بغير قصد. إن الموقف في حقيقته كان مؤثرا، وكان يجب أن تتجلى فيه محاسن الرواية بأكملها، ولكن البراعة المنطقية والمهارة الفنية لم يظهرا على ذلك الحين بالمظهر اللائق بهما؛ وبذلك ضاعت على المعرب والمؤلف الغاية التي كانا يتوخينها ويرجونها في هذا المشهد. وجدت الأب يتكلم على وتيرة واحدة، فصوته دائما يتهدج غضبا ويتميز حنقا، ومما زاد موقفه ضعفا ذلك التلجلج الذي كان يعتريه في كل آونة. أما ديانا تلك العذراء المفتونة، التي هي بطلة الرواية تقريبا، فكان صوتها منخفضا هادئا ناعما، يجري على وتيرة واحدة، ولم تكن في حركاتها ونبراتها ما يدل على مقدار ما غلب عليه من الأسى، وما تقاسيه من آلام الوجد والصبابة. بل كانت عجولة في كلماتها، كأنها كانت تكرر درسا. أما العاشق - والأكثر أنه محام - فلم تظهر عليه تلك الهيبة المقرونة بالعزم والحزم عند مواجهة الطوارئ القاسية والعوامل الشديدة المحزنة، بل كان في حركاته كأنه الطفل يتآمر مع أترابه ولداته. أما الأم، ويا لها من أم! شفيقة كما يظهر من كلماتها، ولكن، يا للأسف! فإن حركاتها ولفتاتها كانت منافية لما يبدو من عواطف الشفقة والتأثر، كأنها غير مكترثة ولا متأثرة بما يعرض أمامها من مشاهد الحزن والأسى. أما الخادم، فلولا سكرتيرته الخصوصية لظننته من أبطال الرواية العظام، فكان يتكلم بلهجة خشنة كلهجة الآمر المتعجرف، وحسب الجوق والمعرب ما صادفاه من إقبال الجمهور على مشاهدة هذه الرواية، فقد كان لا يتعدى العشرات، وهذا أسطع شاهد على مقدار مكانة الرواية التي افتتن بها حضرة المعرب، وهام بها الجوق ومجها الجمهور.
وهذا النقد فسره البعض بأنه هجوم على تاريخ الشيخ سلامة ومقدرته الفنية، فتصدى له حمدان الناقد الفني لجريدة «المنبر»، وكتب مقالة في 11 / 3 / 1917، قال فيها:
من الذي نهض بالتمثيل؟ سل من تشاء من الخبيرين بأحوال التمثيل وتطوراته وتواريخ جوقاته، عن البضاعة التي يعرضها غالب الجوقات التمثيلية الآن على أنظار الشهود؛ يجيبك على الفور: إنها بضاعة رجل واحد نهض بالفن ولا يزال ناهضا به إلى الآن. وذلك الرجل غير خاف على أحد، وهل يخفى الشيخ سلامة حجازي؟ سل سطور كل رواية، وغنات كل قصيدة تنشد، وضروب كل الألحان التي تقال، تجيبك كلها بلسان واحد أنها أخرجت من لدن الملحن النابغ والمعلم التمثيلي الكبير الشيخ سلامة حجازي. أنفق الرجل عندما بدأ بالتمثيل في دار التمثيل العربي بضعة عشر ألفا من الجنيهات على شراء الملابس ومكافأة الكتاب الروائيين. فأين ذهبت تلك الملابس؟ ومن ذا الذي دفع قرشا واحدا ثمنا لما يمثله من روايات شتى، مثل «ثارات العرب» و«السيد» و«صلاح الدين» و«اليتيمتين» و«البرج الهائل» و«روميو وجوليت» و«عواطف البنين»؟ سلهم ألم يكن الشيخ سلامة وحده هو الذي كافأ معربي تلك الروايات كلها، ثم تناهبتها الجوقات، وهو ساكت لا يبدي ولا يعيد؛ لأنه لا يؤلمه أن يكثر عدد جوقات التمثيل، ولكن الذي يؤلمه أنها تفسد ما ابتكر، وتذهب بجمال ما لحن ، ووضع من الأناشيد والألحان. بل سل كل ممثل عربي أوتي حظا من الشهرة ونصيبا من الكفاءة: أين تمرنت؟ وعلى يد من تخرجت؟ إنه يجيبك على الفور بأنه تمرن في مدرسة الشيخ سلامة حجازي، وتعلم على يد الشيخ سلامة حجازي. من هنا تعلم - أعزك الله وأبقاك - أن إلى هذا الرجل الكبير ورئيس دولة الغناء وكبير أهل المسرح يرجع الفضل في تخريج الممثلين والممثلات، وشراء الروايات وإظهارها، وابتكار الألحان والأناشيد وتوقيعها، ووضع الملابس الفاخرة التي يزهى بها الممثلون، ويعزون كل ثمرة نبوغه وإخلاصه للفن، وجوده بوافر الأموال على رقيه. ولكن هل قنع بعض الأجواق بما نهبوا من نبوغ الأستاذ؟ أقول: كلا، ثم كلا ... وأبعد من كل ما تقدم في الغرابة أن بعض الذين تعودوا تعريب الروايات وإنشاءها، أو رغبوا في أن تذكر أسماؤهم في إعلانات الجوقات التمثيلية، إذا عربوا رواية أو ألفوا قصة، يهرعون أول وهلة إلى الشيخ سلامة حجازي؛ لأنه صاحب أكبر جوقة، وأكرم من جاد في سبيل إظهار طيب الروايات. فإذا قدر سوء حظ الشيخ أن لا يرى في الرواية ما يشفع في تقديمها، رأيت صاحبها معولا صاخبا، مترددا على إدارة الأجواق الأخرى، فلا يجد منها إلا التحريض على الشيخ والنقد عليه، أو العمل على تنزيله من عرش سلطان فن الغناء، وأمير التعليم في الإلقاء والإيماء، وهو عرش لم يصعد عليه إلا بالكفاءة ورضى الأمة. وهكذا قل عن كل من احتك بالأجواق من طريق الروايات، ولم ير من الأستاذ سلامة حجازي صدرا رحبا ورضى عما يريد. وأغرب من كل ما تقدم أن بعضهم تسول له نفسه أن يحارب الشيخ سلامة حجازي من وراء ستار، وهو لو عقل الفهم أن الشيخ سلامة الذي لم ينهض ولم يفز إلا بحب الأمة على بكرة أبيها له، وإكبارها إياه وتقديرها عمله، لا تهمه وشاية واش بالنميمة، ولا دسيسة أستاذ من أساتذة الدسائس. أضف إلى هذا أن الشيخ قضى ما قضى من السنين الطويلة في عالم التمثيل، فلم يذكر أولوا الأمر له هفوة، والنابغ الذي يحصل على رضى الحكومة
104
والأمة معا، لا تؤثر فيه السعايات ولا تنجح معه الدسائس والوشايات، وندر من حصل على رضى الهيئتين الحاكمة والمحكومة، بل قل: هيهات.
وفي هذه الفترة أعادت الفرقة مسرحياتها القديمة، ومنها: «شهيدة الوفاء»، «السيد»، «صدق الإخاء»، «عظة الملوك»، «عائدة»، «سارقة الأطفال»، «عواطف البنين»، «شهداء الغرام»، «هناء المحبين»، «ابنة حارس الصيد»، «هملت»، «غانية الأندلس»، «اليتيمتين»، «مطامع النساء»، «أنيس الجليس».
صفحة غير معروفة