هذه الحكاية لا تحدث أية فرق بالنسبة له، يعرف أن اتفاقيات السلام ما هي إلا هدنات لحروبات أكثر شراسة، كان محبطا جدا، على الرغم من أنه يلبس الآن ملابس جديدة ونظيفة، وقد استحم أكثر من مرتين، ورمى بكل هدومه الأخرى بقملها وبراغيثها في المزبلة، أشعل عليها النار، وأخذ يرقبها، إلى أن أصبحت رمادا، كان يعرف أن القائد يتعاطف معه، ولكنه أيضا يعرف أن هنالك حروبات تلوح في الأفق، وهي المعارك التي تسبق اتفاقيات السلام، حيث يريد كل طرف أن يدخل الاتفاقية من موقع القوة، وأن يضغط الطرف الآخر نفسيا ومعنويا وماليا - رشاوى - وعسكريا في ميدان القتال، حتى يستطيع أن يفرض وجهة نظره ويحصل على أكبر مكاسب ممكنة: هذه هي الحرب، كما خبرها خلال عشر سنوات، وفكر فعليا في الهرب، ولكن إلى أين؟
ألحق بالمستشفى الميداني كممرض أو طبيب مساعد أو أية وظيفة رحيمة أخرى، طالما كان لا يرغب في حمل السلاح، لكن عندما أتت البرقية المستعجلة، دعاه القائد بعد اجتماع مقفول مع القادة الميدانيين، وحدثه بأن عليه أن يذهب في مهمة عاجلة. لقد ادعى أحدهم النبوة، وقال إنه السيد المسيح، أو المسيح الدجال، أو أي شيء من ذلك القبيل، ولا يعرف في حياته شخصا يمكن أن يرسل لمحاجة مدعي النبوة أكثر من شخص جمهوري، الذي هو: أنت.
المؤمنون بي والكافرون
النجارون وأشباه النجارين، لم يسمعوا بالسيد يوسف النجار الذي هو خطيب الأم مريم بنت عمران، أو كما يعرفونها بمريم العذراء، أم السيد عيسى ابن مريم، ولكنهم جميعا يعرفون الرجل الذي يدعي النبوة الآن معرفة حقة، ويتعجبون كثيرا للتشابه الذي يقع بينه وبين السيد عيسى ابن مريم على الأقل في التكوين الأسرى، وربما - في رأي بعضهم - هذا ما أغراه أن يقول إنه عيسى ابن مريم نفسه؛ فوالده هو زميلهم يوسف هارون النجار، وهو من أمهر النجارين بزالنجي، وأبرعهم في صناعة السحارات ودواليب النساء الحديثة هي ما تسمى بالحافلات، هرب يوسف منذ عام تقريبا لجهة غير معلومة، بما يتوافق تاريخيا بادعاء ابنه للنبوة، ويهمس البعض: إنه هرب معه بإيعاز من أمه التي أعلنت انحيازها لولدها منذ اللحظة الأولى، والصدفة الغريبة أن أم عيسى بن يوسف تدعى مريم، وهي من أسرة معروفة في المدينة، أبوها الشيخ عمران الرجل الثري صاحب المواشي، تنتهي أصوله إلى قبيلة عربية هاجرت منذ القرن الأول الهجري من المدينة المنورة بالجزيرة العربية، يقولون لأسباب سياسية. بقليل من التصرف وإعمال الفكر يمكن اقتراح اسم عربي قديم لهذه القبيلة مثل بني النضير مثلا، وهو يعمل أيضا بالتجارة الحدودية بين تشاد والسودان، يقيم معظم أيامه في قرية الطينة الحدودية. أما أخواها هارون وموسى فقد هاجرا لدار صباح، وهو ما يعني وسط السودان، وأحيانا مدينة الخرطوم، تاجران شهيران بسوق ليبيا في أم درمان.
النجارون وأشباه النجارين حضروا المناظرة الاستثنائية التي جرت بين إبراهيم خضر إبراهيم وما سمى نفسه المسيح ابن الإنسان. حسنا قبل أن ندلف للحوار علينا أن نمر على بعض الحقائق حول إبراهيم خضر نفسه: أولا إبراهيم خضر ليس له قناعات مسبقة بأن هذا الرجل كاذب أو صادق، نبي أم غير نبي، ويظن أن ذلك لا يهمه كثيرا، بل ليس من شأنه الخوض في حريات الآخرين؛ فمن حق أي إنسان أن يعتقد في نفسه ما يعتقد، طالما لا يضر اعتقاده الآخرين في شيء، فهو لم يقاتل أحدا، لم يعتد على ممتلكات أحد، لم يجبر أحدا على الإيمان به، بل العكس إنه يبحث عمن يكفر به، ويقول:
طوبى للكافرين بي، إنهم سينجون من الحقيقة، وأنا أنجو من حبهم لي.
نستطيع أن نقول إن إبراهيم خضر إبراهيم، عندما يجادل الرجل فإنه ينطلق من نقطتين أساسيتين؛ الأولى هي تنفيذ المهمة التي أوكلت إليه، كجندي مدني، والشيء الآخر يريد أن يتعرف على أفكار الرجل، والأخير هدف إنساني شخصي يخصه هو وحده؛ إذ إن إبراهيم خضر إبراهيم لا يجرم أحدا ولا يبارك دعوة أحد، ونريد أن يكون ذلك واضحا للناس: فالحرية لنا ولسوانا.
يوم الجمعة التي انتظرها الجميع طويلا، العسكريون والنجارون وأشباه النجارين، السياسيون المنتظرون خلف سماعات التليفون، الأخبار الجميلة من القائد الميداني الذي سيبشرهم بقتل وصلب النبي الكاذب أو مدعي النبوة، أو ما يظن أنه عيسى ابن مريم، ينتظرون أن يضحكوا في استمتاع خاص وهم يتناولون كأسات مترعة من الويسكي الأيرلندي اللذيذ، الذي يستورد من أجلهم بكامل السرية، حيث إنهم مسلمون رساليون سلفيون على منهج الإمام ابن تيمية في العلن، وداعرون فاسقون فاسدون كاذبون وسحرة، على منهج راسبوتين الروسي في السر.
خرجوا في جماعة واحدة، وكما هو متوقع اتجهوا نحو الراكوبة الكبيرة وسط القرية، جميعهم معروفون لدى أهل دارفور، وليسوا جميعا من قبيلة واحدة، كان من بينهم الدارفوري من الزغاوة والمساليت والفور وغيرهم، والعربي الذي ينتمي لقبائل مثل الفلاتة والتعايشة والهبانية وكوكا بني حسن وغيرهم. في الحقيقة لا أحد يستطيع أن يفرق بينهم نتيجة للقبيلة أو اللون أو الشكل، لقد كانوا يتشابهون أو صاروا يشبهون بعضهم البعض فيما بعد، لدرجة أن الكثيرين لا يستطيعون أن يميزوا أيهم الرجل وأيهم أصحابه. فقط يستطيع الناس أن يشيروا إلى السيدة مريم الحبيبة، وهي في ثوبها السوداني التقليدي وضفائرها الجميلة المرسلة التي ينحسر عنها الثوب من جهة الرأس، كانت جميلة ورقيقة ونظيفة.
النجارون وشبه النجارين، فرغوا من صناعة الصلبان المتينة القاسية التي تقبع عند الوادي الصغير متشهية الدماء، يحرسها بعض الجنود ال 66، البعض الآخر يقوم بتمارين نهائية وبروفات لأداء مهمة القتل في حالة أن قاوم الرجل وأتباعه الصلب، أو أن قوة مجهولة تريد أن تتدخل في الآونة الأخيرة للحيلولة دون تنفيذ الأمر، فالمنطقة لا تخلو من متمردين ومنفلتين وقاطعي طرق، وإن الأمم المتحدة بجيوشها الكسولة ليست ببعيدة عن الموقع، عليهم ألا يترددوا في إطلاق النار، وألا تأخذهم في الحق لومة لائم. كانت الراكوبة متسعة، بحيث إنها آوتهم وعشرات الآخرين، وتبقت منها مساحة كبيرة أخرى تسع مائة شخص آخر، فلنقل إنها تؤوي كل من يدخل تحتها، لا ندري ما إذا كانت تمتط في المكان والزمان مثل الكون، أو أنها تسعهم وكفى، يجلسون على الأرض وسط الراكوبة، والبقية يجلسون أو يقفون حولهم، يحملقون في وجوههم لا يدرون هل يصدقونهم أو يكفرون بهم، وكان الكفر بهم أسهل بكثير من تصديق أن هنالك نبيا وحوارييه، يقبعون في قعر جبل ما في مجاهل دارفور، كما أن الناس يتساءلون عن الضرورة لنبي جديد، ألا يكفي الأنبياء الكثر الذين أرسلهم الله في القرون الماضية؟! ما هو الجديد الذي سيأتي به نبي في القرن الحادي والعشرين؟
صفحة غير معروفة