عندما خرجت الطلقة الأولى، لم يدر أي منهم أيهم أصابت، وهم يهربون في كل اتجاه، وصوت الطلق الناري يقعقع خلفهم، سوف لا يعرف أي منهم من هم الذين أصيبوا أو قتلوا؛ لأنهم لم يلقوا بعضهم البعض بعد ذلك مدى الحياة.
إذن ظن إبراهيم خضر أنه الناجي الوحيد، لم يستطع أن ينظر وراءه، كان يجري بكل ما أوتي من قوة مندفعا بطاقة الخوف، عبر خيران كثيرة، غابة صغيرة، أرض شوكية ورمال لا حصر لها، إلى أن اختفى صوت الرصاص نهائيا، أو خيل له ذلك. كانت الشمس تغرب ببطء شديد، ترسل أشعتها الدامية نحو الكون، أشعة تذكره بمذابح كثيرة مرت به، هنا في دارفور وفي جنوب السودان ومذابح كثيرة نجا منها، لا يدري أيها سيكون من نصيبه، اتجه مرة أخرى نحو الشرق، هو الاتجاه الوحيد الذي سيقوده إلى معسكر ما للجيش السوداني، كما أنه أيضا قد يقوده لقرية مجهولة يسكنها شبح مسلح كما حدث قبل قليل.
على كل لقد توجه بكل قلبه وأحساسيه نحو نجاته، التي لا تحدث إلا إذا وجد الجيش السوداني، فلون بشرته الأصفر هو لون الجنجويد وشعره الكث الغزير المهمل، وذقنه الشائكة غير المنتظمة، كل ذلك يجعله شديد الشبه بالجنجويد، ولا ينتظر أحد ليرى ما بداخل قلبه من جمال وحب للإنسان، وليس لدى أحد في هذا الجحيم الوقت الكافي ليستمع إلى قصته، وكيف أنه رمي به في هذه الحرب رميا، وأنه لم يطلق النار على أحد، ولا يعرف كيف يستخدم البندقية، وهذه هي سنته العاشرة بالجيش، لا يعرف كيف يدافع عن نفسه بغير الجري، كان يمضي نحو الشرق بسرعة وهمة، وجد عودا يابسا اتخذه عصا قد تساعده على المشي وتدفع عنه شر ثعبان أو أي من الهوام قد يصادفه.
كانت الأرض تمتد أمامه إلى ما لا نهاية، شبه صحراء قاحلة، يرى في البعيد بعض الأشجار الخضراء في الأودية، تتناثر أعشاب الفصل المطير الماضي في كل مكان، لونها أصفر فاقع أو بني، الآن بقيت بالأفق آخر أشعة الشمس، وبدا ظل ثقل ثقيل يسيطر على الكون من حوله، يهبط تدريجيا، لزجا وناعما مثل الزيت، ظل ليس باستطاعته أن يحبه ولو أنه قد يكفيه شر الأعداء غير المتوقعين، إلا أنه أيضا يخفي بين إبطيه مخاوف أكثر فظاعة ومفاجأة.
لا يدري كيف استحضر في هذه اللحظات بالذات صورة الأستاذ محمود محمد طه، صورة ابتسامته العميقة الجميلة وهو يتوجه نحو المشنقة، هذا الخليط الثري بين قمة المأساة وقمة الفرح، المزج بين النار والزيت في ذات الإناء بينما يظل الزيت زيتا والنار نارا. أعطته الابتسامة شجاعة غير متوقعة، وبدأ الليل يظلم إظلاما تاما، وسوف لا يظهر القمر إلا بعد ساعتين على الأقل، إلى أن آنس ضوءا صغيرا بعيدا جدا، ثم أضواء متفرقة تقترب ببطء أو يقترب هو منها كما يمضي الحالم نحو هدف مجهول، قد تكون مدينة صغيرة، قد تكون قرية منسية من مذبحة ما، ولكنه استبعد أن يكون ذلك معسكرا للجيوش؛ لأن المعسكرات عادة ما تكون مظلمة، شديدة الإظلام، كلما اقترب من مصدر الضوء كلما ازدادت مخاوفه، قد يصادف إحدى ورديات الحراسة الحكومية، أو الأهلية المتعجلين الذين يقتلون ثم يتحرون من أصل الضحية إذا أثارت في بعضهم غرائز الاستطلاع.
إذن من الأفضل أن يقضي الليل دون أن يلج المكان، وفي الصباح يتدبر حاله، ولكن كيف يبيت في العراء ملتحفا السماء ومتوسدا الرمال؟ كانت تدور برأسه أفكار شتى، لم يتصل بأسرته منذ سنوات كثيرة ماضية، إنهم لا يدرون أين هو، ربما ظنوا أنه مات وشبع موتا، آخر رسالة بعثها لهم عن طريق الصليب الأحمر، رسالة طويلة جدا، لولا قلة الأوراق لكتب أكثر، كان بإمكانه أن يملأ ألف ألف صفحة، ولكن لأفراد الصليب الأحمر عملا آخر يقومون به غير رسالته، ولا يمكنهم انتظاره أياما ليكمل خطابه لأسرته.
كان يحس أنه يتحدث معهم فردا فردا، يشعر بأنفاسهم وتعبير وجوههم، ويسمع نصائحهم له، ويستطيع وهو ممسك بالقلم أن يمسح الدموع الساخنة عن وجه أمه الذي يراه في غاية الحزن: أنا هنا أقيم في معسكر آمن، لا توجد حرب في هذا المكان، وقريبا ستطبق اتفاقية السلام ويتم إعادة الأسرى، سأعود مباشرة لكسلا، الطعام كثير ومتوافر جدا، ونحن لا نعمل شيئا سوى النوم ولعب الكوتشينة. أمي، اطمئني ولا تقلقي بشأننا، أريد أن أعرف أخبار أختي أمل، فهي بدون شك تكون قد تخرجت في الجامعة منذ سنوات طويلة ماضية، أبي اكتب لي ...
كان يقترب تدريجيا من مصدر الضوء، حينما فكر في الألغام البشرية، ما إذا كانت المنطقة شبه عسكرية، على كل يحتاج لمسيرة ما يزيد عن الساعة لكي يدرك الضوء، ويقدر المسافة بعشر كيلومترات وليس أقل من ذلك، هذا العالم مليء بالشرور، عندما يحس بالقمل يتحرك في ظهره يعرف أنه أصبح حساسا أكثر مما يجب، وقد بلغ به القلق أشده، تعلم كثيرا من الحياة في ميدان القتال، تعلم كيف يتعايش مع الأوساخ وأن يبقى في ملابسه دون حمام لشهور كاملات، وأحيانا إلى أن تتمزق على جسده، وتعلم أيضا فنون النجاة من الموت.
أصبح ثعلبا ماكرا في اصطياد الحياة، ما زالت تعلق في ذاكرته اللحظة التي تم صيده فيها على مشارف مدينة الخرطوم، فيما يزيد عن عشرة أعوام، قضاها في ميادين القتال مدنيا، يحمل الذخيرة على ظهره، يعالج الجرحى بخبرات تعلمها في الميدان من لا أحد. كان يسير كالمنوم مغناطيسيا، إنه يتقدم بإصرار، تعرف على شيء مهم، وهو أن الضوء يصدر من كشافات كبيرة على أعمدة، مرصوصة بانتظام، عددها عشرون كشافا. حسنا، هذا ليس مطارا خلويا، ولكنه بدون شك معسكر لقوات الأمم الأفريقية
AMIS . إنهم الوحيدون الذين يمتلكون كل تلك الطاقة من الضوء ويشعلونها، وهم الأكثر مخافة من الظلام في دارفور.
صفحة غير معروفة