العم ساكن من قبيلة الفور، وهي القبيلة التي تسكن جبل مرة والأودية التي حوله منذ آلاف السنين، قبيلة مسلمة مسالمة لا تميل للحرب والاقتتال، إلا أن الأراضي الخصيبة التي تشغلها جعلت منها هدفا لأطماع الطامعين منذ أقدم العصور.
عبد الرحمن كانت تفكر بجدية في الطريق التي تشكر بها هذا الرجل. نعم إنه يرى فيها المنفذ العملي للانتقام من أجل أبنائه الذين لم تترك لهم الفرصة للدفاع عن أنفسهم، قتلوا ببرود، سيحكي لها قصة موتهم للمرة العشرين؛ كانوا يستقلون عربة نقل تجاري من كاس إلى زالنجي، وجدوا نقطة تفتيش في الطريق، بها جنجويد وجنود نظاميون، سألوا الناس عن قبائلهم، ومن كذب في اسم قبيلته اكتفوا بأن يحرزوا اسمها، كان يهمهم أن يعرفوا هل الشخص زرقة أم عرب؛ لأن اللون وحده لا يكفي؛ فكثير من منسوبي القبائل العربية أكثر سوادا من منسوبي القبائل الدارفورية الأخرى. كانوا أيضا يعتمدون اللسان، طريقة النطق والتعبير، وفوق ذلك كله يعتمد الأمر على مزاج الجنجويد المسئول عن نقطة التفتيش، وهو دائما في رتبة وسلطة أعلى من القائد العسكري النظامي، بل يستطيع تصفيته دون أن تعاقبه أية جهة كانت؛ ففي ذلك اليوم كان مزاج الجنجويد عكرا؛ فقد جرح أحد أفراد قوته جرحا بليغا قد يودي بحياته، في عراك مع أحد الرجال الدرافوريين، ومما أثار غضبه أكثر أن الرجل استطاع أن يهرب ولم يصبه الطلق الناري الكثيف الذي أمطر به؛ لذا قام بإعدام كل الرجال والأطفال الذكور الذين باللوري السفري، جميعهم، عربا كانوا أم زرقة، ومن بينهم أبناؤه الأبرياء؛ رجلان بالغان وطفل في العاشرة من العمر.
تحس في أعماقها أنها أخذت تنتمي للرجل، قد بدا لها حقيقيا وحزينا جدا، وترغب في مواساته، وعبد الرحمن لا تدري كيف تفعل ذلك. إنها تخشى ألا يقبل الطريقة التي تفكر في أن تعبر بها عن تعاطفها معه، إنه ذات الجسد الذي تصيد به الأشرار والقتلة، وهو يفيد جدا في تقديمه هدية للطيبين والصالحين والذين تحبهم، وفي سبيل قضيتها؛ فلم يخلقه الله لها عبثا، إنه سلاحها وثروتها. لا يستطيع أن يقرأ ما يدور بخاطرها في تلك اللحظة، وإلا لأراحها من الحيرة بإجابة ما سلبية كانت أم إيجابية.
حسنا، يمكنها أن تعطيه النقود التي أخذتها من الجنجويدين، إنه مبلغ كبير من المال، لا تدري ماذا تفعل به في ميدان المعركة، قال لها إنه لا يحتاج لنقود، لديه من المال ما لا يدري ماذا يفعل به ولا كيف يصرفه، المال لا يمثل لديه أية قيمة، قالت له إنها لا تدري ماذا تفعل به أيضا. وأخيرا اتفقا على أن يقوم بإعطائه للعمة خريفية، بأسلوب لا يجعلها تشك في أن مصدره هو ابنتها المختفية عبد الرحمن.
حسنا، إنها لم تكافئه أيضا. الطريق إلى المعسكر قد اتضح تماما، وعليها عندما تتخطى الخور الصغير أن تتخذ يسارها، وتتجه نحو المرتفعات التي سوف لا تبعد حينها كثيرا. إنهم في وسط تلك المرتفعات فيما يسمونه المدينة، وعليها أيضا أن تتخذ تمام الحيطة والحذر؛ لأنهم سوف يرونها بمناظيرهم من على بعد كاف، وإذا التزمت السير كما شرحته لها، فإنها ستتجنب حقل الألغام البشرية. أما ألغام الآلات الثقيلة فبإمكانها أن تعبره دون مخافات تذكر؛ لأنها لا تنفجر إلا تحت ضغط حمل ثقيل مثل دبابة أو شاحنة جنود، عربة لاندكروزر، أو غيرها من المقاتلات ذات الوزن الذي يفوق ثلاثة أطنان، وطالما كانت تحمل طرحتها البيضاء في بيرق ترفعه عاليا، فإنهم سوف لا يطلقون عليها النار. حدثها بسر كتمه طويلا، وهو أنه أحد الذين يعملون على إرسال المقاتلين الدارفوريين من مدينة نيالا إلى ميدان المعركة، وفي كل الجبهات، وهو المسئول الأول في هذا الشأن، وحدثها أن بنيالا الآن أكثر من عشرين خلية مقاومة ثورية، تحت إدارته، وبها عشرات النساء والرجال، مدنيين وعسكريين، طلابا وموظفين. وذكر لها اسم أحد الثوار وهو يعمل بمكتب الوالي شخصيا، بل من أقرب المقربين إلى الوالي.
قال لها: أعمل أنا من عشر سنوات في هذا التكليف، وكنت مقاتلا في أكثر من جبهة، أكد لها بلغتها المحلية وهو يشيعها بابتسامة عريضة بينما يتوغل بها الفرس في عمق المكان. كانت مندهشة، ممتنة، وترغبه بل تتشهاه بشدة، فلو عادت بها الأيام لأصبحت من أقرب أصدقائه أو عشيقته، لا فرق، كم هي حزينة: أن أتعرف عليك في الزمن الضائع.
الحرية وقرينها
جدود إبراهيم خضر إبراهيم منحدرون من العبد الذي سمي بخيت، هو والد الخادم التي سميت بخيتة وعرفت فيما بعد في مجتمع العبيد والأسياد معا ببخيتة «سجم الرماد». لم يهتم أحد بمعرفة اسميهما الحقيقيين، يكفي أن يكون لكل منهما سعر محدد، بيع الجد بسعر أعلى من أقرانه 55 ريالا مجيديا، نسبة لوجود علامات الجدري في وجهه؛ لأن ذلك يعني أنه سوف لا يصاب به مرة أخرى. طالما كلف الجدري التجار خسائر فادحة في العام الماضي، ووهبت هي مجانا لذات التاجر؛ لأنها كانت صغيرة في السن وتحتاج لرعاية قريب حتى لا تموت، كما أنه لا يمكن أن يشتريها أي من التجار؛ فهي خسارة مؤكدة، ولولا رأفة طارئة في قلب النخاس، لتخلص منها برميها للذئاب التي كثيرا ما تتبع قافلة صيد الرقيق، طمعا في وجبات طازجة من موتى أو جرحى من الرقيق فقد الأمل في أن يشفوا.
كان الأب بخيت، وسندعوه بخيت؛ لأن اسمه الحقيقي ظل مجهولا إلى تاريخ وفاته؛ كان يحمل ابنته حديثة الولادة البكر، إلى الرب الخاص بقبيلته في جبل مجاور لمباركتها، وفي الطريق صاده الصائدون، بهذه البساطة، ولكن بخيت كان يلوم نفسه على ذلك؛ لأنه وقع في ثلاثة أخطاء كبيرة؛ أولا أنه لم يذهب في جماعة مدججة بالحراب والنبال، كما هو الحال دائما في مثل تلك الأيام التي يكثر فيها صائدو البشر النخاسون، وهي نهاية هطول الأمطار إلى بداية هطولها مرة أخرى. الشيء الآخر هو أن بخيت نسي أن يحمل معه تميمته الخاصة بحمايته من الطلق الناري والسلاح الأبيض، إلا لما أخافه النخاسون ببنادقهم وحرابهم. الخطأ الثالث وهو الأفدح، أن بخيت ما كان يرغب في الذهاب إلى الرب الخاص بقبيلته؛ لأنه في الآونة الأخيرة انتمى لجماعة تعبد إلها آخر غير الذي تعارف الناس عليه في القرية، يحرم هذا الدين الرب الخاص والخمر والتمائم ويلزم الناس بالصلاة والصيام.
ولكن تحت إصرار وإلحاح أمه وأبيه وزوجته، أخذ ابنته ومضى للرب مكرها؛ لذا فعل الرب به ما فعل. لقد جعله فريسة لأفراد يتخذون نفس دينه الجديد ويعبدون ذات الإله ويصلون تماما كما تعلم أن يصلي، ويكفرون بالرب الخاص بقبيلته.
صفحة غير معروفة