المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
صفحة ١
فإن شريحة من المسلمين تقوم بتكفير المسلمين الذين هم مثلهم، بحجة أن مسائل الاعتقاد لا تقبل الاجتهاد ولا تقبل الخلاف، وكل طائفة من هذه الطوائف تعتقد أنها على الحق وأنها هي الطائفة الناجية وان غيرها على الباطل، وهذا الاعتقاد يسهم إلى حد كبير في تعميق الخلاف بين المسلمين، والذي يبدأ بعدم الإقرار بالخلاف ثم بالتبديع والتفسيق إلى التكفير والقتل؛ لأنه -كما يزعمون-من بدل دينه فاقتلوه.
والحقيقة التي ينبغي أن يعتقد بها المسلمون جميعا بغض النظر عن فرقهم وتوجهاتهم ومدارسهم الفكرية، أن هناك مسائل في العقيدة لا يجوز الخلاف فيها لكونها ليست محلا للاجتهاد وهذه هي أصول العقيدة، ومسائل أخرى يجوز الخلاف فيها لكونها محلا للاجتهاد وهذه هي فروع الاعتقاد.
وانقسام العقيدة إلى أصول وفروع منصوص عليه،وتدل عليه نصوص كثيرة وأقوال للعلماء عديدة.
صفحة ٢
وإذا كانت نصوص الكتاب والسنة على ما هو معلوم؛ منها ما يقبل الخلاف والاجتهاد ومنها ما لا يقبلهما، ولا فرق بين هذه النصوص سواء أكانت تدل على مسائل علمية وهي مسائل العقيدة، أم كانت تدل على مسائل عملية وهي مسائل الفقه، والنصوص التي جاءت بفرضية الاجتهاد لا تفرق بين هذه النصوص أو تلك، وإذا كان الأمر كذلك فإنا نجد أن الصحابة والتابعين ومن بعدهم اجتهدوا في مسائل فروع الاعتقاد، واختلفت آراؤهم فيها من غير حدوث إنكار من بعضهم على بعضهم الآخر إلى حد التبديع أو التكفير أو القتل، وبقوا محافظين على وحدة كلمتهم واعتصامهم بحبل الله كما أمرهم الله بقوله: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون*واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } (103: آل عمران). ولم يقعوا فيما نهاهم عنه وحذرهم منه بقوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } (105:آل عمران) وهكذا جمعوا بين الاختلاف في مسائل فروع الاعتقاد ووحدة الأمة ووحدة ولائها ووقوفها أمام أعدائها.
ولعل هذا البحث يسهم في إعادة تلك الصورة المشرقة من الاختلاف في الرأي مع وحدة القلوب والمواقف جمعا بين الأمر بالاجتهاد والأمر بالوحدة وعدم الاختلاف والنظر إلى المخالف على أنه معذور ومأجور وإن أخطأ في اجتهاده.
الدراسات السابقة:
لم أطلع على دراسة مستقلة تشير إلى مشروعية الاجتهاد في مسائل الاعتقاد، وإن كانت هناك نصوص تحدثت عن هذا الموضوع متفرقة في بطون الكتب كما سيظهر من خلال استعراض بعضها في ثنايا البحث.
منهجية الدراسة:
قامت الدراسة على المنهج العلمي القائم على الاستقراء والتحليل والاستنتاج، حيث قام الباحث:
-باستقراء الأدلة على مشروعية الاجتهاد في مسائل الاعتقاد، وتحليلها، واستنتاج هذه المشروعية منها.
-وعزو الآيات إلى مواضعها من السور، وتخريج الأحاديث النبوية، والحكم عليها حيث لزم الأمر.
إشكالية البحث: ما حكم الاجتهاد في مسائل الاعتقاد ؟ وهل هو نفس الحكم في مسائل الفقه ؟.
وهل في مسائل الاعتقاد ما يجوز الاجتهاد فيه وما لا يجوز كما هو الحال في مسائل الفقه ؟.
وهل يعذر المخطئ والمخالف في مسائل الاعتقاد كما هو الحال في مسائل الفقه؟.
وهل الحكم في المخطئ والمخالف في مسائل الاعتقاد كما هو الحال في مسائل الفقه ؟، وهو عدم التكفير أو التبديع هذا ما سيحاول البحث الإجابة عنه.
محددات البحث: سيكون هذا البحث مقتصرا على نظرة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، واقتصر على ذلك خشية الإطالة، وليكون الخطاب من كل طائفة من طوائف المسلمين من خلال علمائها وكتبها؛ وهذا ادعى للإقناع والقبول.
خطة البحث:
لقد قسم البحث إلى مقدمة وتمهيد، وأربعة مباحث وخاتمة.
التمهيد: مصطلحات البحث: تعريف الاجتهاد والأصل والفرع والعقيدة.
المبحث الأول: حكم الاجتهاد عموما وفي مسائل الاعتقاد خصوصا.
صفحة ٣
المبحث الثاني: أدلة وقوع الاجتهاد في فروع الاعتقاد.
المبحث الثالث: أقوال العلماء في حكم المخالف في مسائل الاجتهاد في الاعتقاد.
المبحث الرابع:نظرية ابن تيمية في الاجتهاد في فروع الاعتقاد.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي توصلت إليها.
وختاما، فأسأل الله القدير أن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
التمهيد: تعريف بمصطلحات البحث
1. الاجتهاد لغة واصطلاحا:
الكلام في مفهوم الاجتهاد يكون في معناه لغة، واصطلاحا، وذلك ضمن النقاط التالية:
أولا: الاجتهاد لغة: مصدر مأخوذ من الجهد، والجهد: وهو بالفتح المشقة، وقيل: المبالغة والغاية، وبالضم، الوسع والطاقة، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة (¬1) وهو كما قال الفيروزآبادي: " الجهد الطاقة، ويضم، والمشقة. واجهد جهدك ابلغ غايتك" (¬2).
وغاية الأمر: أن معنى الاجتهاد لغة يدور حول بذل الوسع والطاقة في طلب أمر من الأمور؛ ويصل إلى غايته ونهايته ومقصوده.
صفحة ٤
وهذا المعنى هو المقصود في تعريفنا الاصطلاحي له حيث يستفرغ المجتهد(¬1) وسعه وطاقته العقلية ضمن قواعد معينة للوصول إلى حكم شرعي باستثماره الأدلة النقلية (¬2).
ثانيا: الاجتهاد اصطلاحا (¬3):
صفحة ٥
عرف الأصوليون الاجتهاد اصطلاحا (¬1) بتعاريف عدة، ومنها ما عرفه به الإمام الغزالي بقوله: " بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة " (¬2) وعرفه ابن الحاجب بقوله: " هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي"(¬3).
2- تعريف الأصول والفروع لغة واصطلاحا:
... ففي اللغة "الأصل واحد الأصول، يقال: أصل مؤصل، واستأصله، أي قلعه من أصله"(¬4).
صفحة ٦
والفرع في اللغة: "فرع كل شيء أعلاه"(¬1) وعلى هذا يكون المعنى اللغوي للأصل والفرع هو الذي يبنى عليه غيره ويكون أساسا له، والفرع هو الذي يقوم على ذلك الأساس ويتشعب منه.
... وأما المعنى الاصطلاحي للأصل في عرف علماء العقيدة، فقد يراد به الأحكام الاعتقادية والتي تتفرع عنها الأحكام العملية، وهذا ما يبدو من تعريف الكلام عند التفتازاني والذي يراد به -علم العقيدة - حيث يقول في تعريفه: "إنه العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية"(¬2) ويوضح ذلك بقوله: "الأحكام المنسوبة إلى الشرع منها ما يتعلق بالعمل وتسمى فرعية وعملية، ومنها ما يتعلق بالاعتقاد، وتسمى أصلية واعتقادية"(¬3).
... وقد يراد بالأصل القاعدة الكلية في العقيدة والمتفق عليها والمجمع عليها والتي تكون قطعية الثبوت والدلالة والتي تتشعب منها فروع تلك العقيدة الكلية وجزئياتها، التي تكون في محل الاجتهاد والاختلاف, وهذا ما أقصده في الفروع في هذا البحث .
وهذا التفريق بين الأصول والفروع في الاعتقاد أمر ثابت عند أهل السنة والجماعة، وغيرهم من الفرق والمذاهب الإسلامية، فهم يفرقون بين الأصول والفروع من حيث المفهوم، ومن حيث حكم المخالف في كل منهما.
صفحة ٧
فالأصل عندهم هو: ما كان ثابتا بدليل قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، وبالتالي فإن هذا الأصل يكون موضع إجماع من المسلمين، ولا يدخله الاجتهاد ولا التأويل، ويكون معلوما من الدين بالضرورة(¬1).
وقد يرى بعضهم مثل المعتزلة: أن الأصل في الدين، هو ما دل العقل عليه دون ما دل عليه الشرع(¬2) والصحيح: أن الأصل في الدين هو ما كان ثابتا بدليل سمعي شرعي قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وأن ما دون ذلك يكون فرعا يدخله الاجتهاد.
ورتبوا على ذلك أن المخالف في الأصل يعتبر كافرا، بينما المخالف في الفرع يعتبر مجتهدا مصيبا، أو مخطئا في اجتهاده.
صفحة ٨
وقد نص العلماء على تقسيم المسائل الاعتقادية إلى أصول وفروع، وإليك بعض أقوالهم في ذلك(¬1): قال ابن تيمية: "وقال المفسرون لمذهبهم - مذهب أهل السنة - أن له أصولا وفروعا، وهو مشتمل على أركان وواجبات - ليس بأركان ومستحبات - " وهذا في معرض حديثه عن أهل السنة حيث يعتقدون أن للإيمان أصولا وفروعا. وقال: فصل فيما اختلف فيه المؤمنون من الأقوال والأفعال في الأصول والفروع، فان هذا من اعظم أصول الإسلام الذي هو معرفة الجماعة وحكم الفرقة والتقاتل والتكفير والتلاعن والتباغض وغير ذلك(¬2) ويقسم ابن تيمية(¬3) أمور الشرع إلى أصول وفروع ويبين أن الأصول هي ما جاء في حديث جبريل عليه السلام عندما سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فقال:أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره(¬4).
-وقال الإمام البغوي: "إن سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام وهو أصل كل خطأ في الأصول والفروع"(¬5).
صفحة ٩
-وقال ابن دقيق العيد: " والبداءة في المطالبة بالشهادتين؛ لأن ذلك أصل الدين، الذي لا يصح شيء من فروعه إلا به "(¬1).
صفحة ١٠
-وقال الإمام السمعاني فيما نقله عنه الإمام ابن القيم: " وبهذا يظهر مفارقة الاختلاف في مسائل الفروع اختلاف العقائد في الأصول " (¬2) وقال أحمد بن الحسين البيهقي: "وفي حديث عبد الله بن عمرو: (إلا واحدة، ما أنا عليه وأصحابي) وإنما اجتمع أصحابه على مسائل الأصول، فإنه لم يرو عن واحد منهم خلاف ما أشرنا إليه في هذا الكتاب. فأما مسائل الفروع فما ليس فيه نص كتاب ولا نص سنة فقد اجتمعوا على بعضه واختلفوا في بعضه، فما اجتمعوا عليه ليس لأحد مخالفتهم فيه، وما اختلفوا فيه فصاحب الشرع هو الذي سوغ لهم هذا النوع من الاختلاف؛ حيث أمرهم بالاستنباط وبالاجتهاد مع علمه بأن ذلك يختلف، وجعل للمصيب منهم أجرين، وللمخطئ منهم أجرا واحدا، وذلك على ما يحتمل من الاجتهاد، ورفع عنه ما أخطأ فيه "(¬1). ونجد إشارات متعددة للعلماء في التفريق بين الأصول والفروع من حيث الحكم بالكفر أو عدمه للمخالف فيرى القرطبي أن التأويل يعتبر باطلا إذا كان في موضع إجماع المسلمين(¬2) ويرى ابن حجر أن الكفر إنما يكون فيما خالف المعلوم من الدين بالضرورة(¬3) ويجمع ابن دقيق العيد بين الأمرين السابقين وينص على التواتر في النص(¬4) وكذلك يشير السيوطي إلى المعنى نفسه(¬5).
3. الاعتقاد لغة واصطلاحا:
صفحة ١١
العقيدة لغة: مشتقة من العقد، ومعناه نقيض الحل، وعقد الحبل شد بعضه إلى بعض، والعقود أوثق العهود ومنه قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } (1: المائدة) والعقيدة هي فعيل بمعنى مفعول أي المعتقدات، ومادة عقد في اللغة مدارها على اللزوم والتأكد والاستيثاق(¬1) ففي القران: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } (89: المائدة).
والعقيدة اصطلاحا: "هي القواعد أو الأحكام الشرعية الاعتقادية التي يطلب من المكلف الاعتقاد بها أي الإيمان بصحتها " (¬2) ويمكن تعريف العقيدة: "وهي الأمور التي تصدق بها النفوس،وتطمئن إليها القلوب وتكون يقينا عند أصحابها لا يمازجها ولا يخالطها شك"(¬3). وبعد أن عرفت الاجتهاد والفرع والاعتقاد يمكن أن اعرف الاجتهاد في فروع الاعتقاد فأقول: بذل المجتهد وسعه في تحصيل حكم شرعي في مسالة من مسائل فروع الاعتقاد.
المبحث الأول
حكم الاجتهاد عموما وفي مسائل الاعتقاد خصوصا.
أولا: حكم الاجتهاد عموما:
مما هو معلوم أن حكم الاجتهاد فرض كفاية على الأمة إذا قام به بعض المجتهدين فيها، سقط الإثم عن الآخرين، وإلا أثمت الأمة كلها (¬4).
والنصوص الدالة على هذا الحكم من الكتاب والسنة والإجماع مشهورة معروفة، منها قوله سبحانه وتعالى: { ولو ردوه إلى الله والرسول لعلمه الذين يستنبطونه منهم } (83: النساء).
وقوله تعالى: { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } (122: التوبة).
صفحة ١٢
ومن السنة حديث معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟) قال: أقضي بكتاب الله، قال: (فإن لم تجد في كتاب الله؟) قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب الله؟) قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)(¬1).
صفحة ١٣
وإذا كانت هذه النصوص تدل على فرضية الاجتهاد فإنها ليست مقيدة بأحكام الفقه دون أحكام العقيدة لأن النصوص الشرعية تأتي بالحكم الفقهي والاعتقادي؛ فيجوز الاجتهاد فيهما والتفريق بين هذه الأحكام لم يحدث إلا في العصور المتأخرة من باب التبويب والتقسيم، وإلا فإن الفقهاء كانوا فقهاء الفقه الأكبر وفقه الفروع، كما ذهب إلى ذلك الإمام أبو حنيفة عندما قال في تعريف الفقه: "الفقه هو ما يجب على النفس من معرفة، فإذا كان في الأصول كان الفقه الأكبر، وإذا كان في الفروع كان معرفة الأحكام العملية التفصيلية"(¬1). ويسوي ابن تيمية بين الاجتهاد في مسائل الفقه والعقيدة حيث يعطي نفس الحكم لهما بقوله: "وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول وغيرها في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك هو من هذا الباب، فيه المجتهد المصيب، وفيه المجتهد المخطئ، ويكون المخطئ باغيا، وفيه الباغي من غير اجتهاد، وفيه المقصر فيما أمر به من الصبر"(¬2).
ومن هنا وجدنا الاجتهاد في مسائل الاعتقاد منذ عهد الصحابة - رضي الله عنهم - إلى يومنا هذا.
ثانيا: حكم الاجتهاد في فروع الاعتقاد.
صفحة ١٤
إذ تبين من الفقرة السابقة أن الاجتهاد في النصوص الشرعية لاستخراج الحكم هو فرض كفاية، إلا أن طبيعة النصوص مختلفة، فهناك نصوص لا يمكن الاجتهاد والاختلاف فيها، حيث أنها قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وهي المسائل الثابتة التي لا تتغير ولا مجال فيها للتفسير أو التأويل أو المعارضة، أو المخالفة، لكون دلالتها على الأحكام قطعية، مثل المسائل العقائدية الأصلية المتعلقة بأصل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره؛ وأن القرآن حق، ومنزل من عند الله عز وجل، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل للناس كافة، وهي الأحكام الاعتقادية الكلية التي لم يخالف فيها أحد من المسلمين،وكذلك كل ما علم من الدين بالضرورة (¬1) وكقطعية بعث الرسل بالنسبة للأحكام العقدية، وكقطعية تحريم الأمهات في قوله تعالى: { حرمت عليكم أمهاتكم } (23: النساء) بالنسبة للأحكام العملية، ولذلك لم تكن محلا للاجتهاد، وهي محل اتفاق الأمة سابقها ولاحقها، متقدمها ومتأخرها.
صفحة ١٥
وهناك نوع آخر من النصوص الشرعية يمكن أن يدخلها التأويل والمعارضة أو المخالفة لكونها ظنية الثبوت والدلالة، أو قد تكون ظنية الثبوت قطعية الدلالة، أو قطعية الثبوت ظنية الدلالة (¬1).
-ومنها: بعض المسائل الاعتقادية الفروعية، وبعض النظريات الكلامية التي اختلف فيها العلماء، وجرت بينهم فيها مناظرات ومناقشات عائدة لظنية الأدلة الدالة على هذا الحكم العقدي(¬2).
وهذه الأحكام يكون فيها مجال للاجتهاد للوصول إلى الرأي الصائب، أو القريب من الصواب، ومعلوم أن هذه الأحكام هي الأحكام الاعتقادية الفرعية، والأحكام العملية الظنية.
وهذا النوع من الأحكام يتجاذبه جملة من القواعد والمبادئ المتصلة بمقاصد الشريعة العامة وكلياتها اعتقادية أو عملية، (¬3).
صفحة ١٦
ويؤكد الشاطبي ما سبق بقوله: " فان الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للانظارومجالا للظنون وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق عليها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف" (¬1). ويظهر من النص أن النظربات يقصد بها المعتقدات وانه يصح الخلاف في فروع الاعتقاد دون الأصول.
ويفرق الشاطبي أيضا في الاختلاف بين الأصول والفروع بقوله: "إن هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئية من الجزئيات إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشا عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا وإنما ينشأ المخالفة في الأمور الكلية " (¬2) ومن هذا النص يظهر أن الشاطبي يرى جواز المخالفة في الفروع والجزئيات دون الأصول والكليات.
ويرى ابن تيمية أن المسائل الأصولية والمجمع عليها والتي دلالة النصوص عليها قطعية لا يجوز الاجتهاد فيها ومنكرها كافر بينما المسائل الفروعية وغير المجمع عليها والتي دلالة النصوص عليها غير قطعية يجوز الاجتهاد فيها ومنكرها ليس كافرا"(¬3).
صفحة ١٧
ويجعل ابن تيمية "الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء، ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض، وهم أهل السنة والجماعة، وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء... وإن تنوعت الأفعال في حق أصناف الأمة فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم... والمذاهب والطرائق، والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء... بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام، هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله تعالى وعبادته وحده" (¬1). ويفرق ابن الوزير بين ما كان معلوما من الدين بالضرورة وما ليس كذلك ولا يرى كفر المتأول والمخالف في ذلك فيقول: والدليل على أنه لا يكفر أحد من المخالفين في التأويل إلا من بلغ الحد في جحد المعاني المعلوم ثبوتها بالضرورة 000 إن الكفر هو تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - إما بالتصريح أو ما يستلزمه استلزاما ضروريا لا استدلاليا(¬2).
ويقول محمد بن عبد الوهاب: " ثم اعلموا وفقكم الله، إن كانت المسألة إجماعا فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد"(¬3).
صفحة ١٨
وإذا كانت النصوص القطعية لا مجال للاجتهاد فيها وأما الظنية فيجوز الاجتهاد فيها فانه لابد من وجود الضوابط لهذا الاجتهاد حتى نصل للرأي الصحيح ولا نقع في الخطأ وفي ذلك يبين شارح العقيدة الطحاوية مسوغات الاجتهاد والتأويل الصحيح لذلك الاجتهاد بحيث لا يقع صاحب الاجتهاد في خطأ التأويل الفاسد، وهذا إقرار منه بالاجتهاد والاختلاف في مسائل الاعتقاد فيقول:
... " فالتأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاءت به السنة، والفاسد المخالف له. فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق، ولا معه قرينة تقتضيه، فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ، فإن الله أنزل كلامه بيانا وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد-لم يكن بيانا ولا هدى. فالتأويل إخبار بمراد المتكلم، لا إنشاء.
وفي هذا الموضع يغلط كثير من الناس، فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخبارا بالذي عنى المتكلم فإن لم يكن الخبر مطابقا كان كذبا على المتكلم. ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة، منها: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى. ومنها: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له، كقوله: { وكلم الله موسى تكليما } ( 146: النساء ). وكما في الحديث: (أنكم ترون ربكم عيانا كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب)(¬1).
صفحة ١٩
... فهذا مما يقطع به السامع له بمراد المتكلم، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة، كان صادقا في إخباره.
وأما إذا تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه، فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه، وهو تأويل بالرأي، وتوهم بالهوى " (¬1).
المبحث الثاني
أدلة وقوع الاجتهاد في فروع الاعتقاد وأقوال العلماء فيه
وإذا كان العلماء قد أقروا بالاجتهاد كما بينا في المطلب السابق في فروع الاعتقاد دون الأصول من حيث التصور فإن الاجتهاد والاختلاف قد وقعا بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء، وسأورد بعض الأمثلة في فروع الاعتقاد الثلاثة في الإلهيات والنبوات والسمعيات.
أولا: الإلهيات:
1-الاجتهاد في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله عز وجل في معراجه إلى السماء: فقد حكى القاضي عياض في كتابه "الشفا" اختلاف الصحابة ومن بعدهم في رؤيته - صلى الله عليه وسلم - ، وإنكار عائشة رضي الله عنها أن يكون - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعين رأسه، وإنها قالت لمسروق حين سألها: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب(¬2).
ثم قال: وقال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها، وهو المشهور عن ابن مسعود وأبي هريرة واختلف عنه، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين.
صفحة ٢٠