( الوجه الثاني): لو كان القرآن محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد وكان تصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملا على المحكم وعلى المتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ويؤثر مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب، فإذا بلغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق.
(الوجه الثالث): أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد ويصل إلى ضياء الاستدلال والبنية، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد.
(الوجه الرابع): لما كان القرآن مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض، وافتقر إلى تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو، وعلم أصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة.
(الوجه الخامس): وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم لا بمتحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح (فالقسم الأول) وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات ا. ه.
صفحة ٦٠