( والمذهب) أنهم معصومون بعد النبوة من الكبائر مطلقا ومن خسيس الصغائر أيضا لما تقدم من الأدلة على وجوب ما يجب لهم وعلى استحالة ما يستحيل عليهم وأما قبل النبوة فلا دليل سمعي يرفع ذلك عنهم أما بعد النبوة فغير مسلم لأن الاصطلاح الأخير ممح للإفساد الأول (لا يقال) إن في قوله تعالى ((إن عبادي ليس لك عليهم سلطان))(19)وفي قوله تعالى حكاية عن إبليس ((إلا عبادك منهم المخلصين))(20)دليلا على أن الشيطان لا سبيل له عليهم وعدم السبيل غير مقيد بزمان دون زمان فتستحيل عليهم مطلقا قبل النبوة وبعدها (لأنا نقول) إن السبيل ممتنع حال الإخلاص لا قبله لأنه نفي عنهم حال اتصافهم بذلك (واعلم) أن تجويزنا عليهم الكبائر قبل النبوة لا يستلزم وقوعها منهم لأن الجواز أخص من الوقوع وقد قلنا به لاستصحاب الحال مع عدم المانع ولو صح دليل على منعه لمنعناه لأن المنع هو اللائق بمنصبهم الكريم (ولنا) على عصمتهم بعد النبوة أدلة (منها) أنا قد أمرنا بإتباعهم كقوله تعالى ((وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))(21) وقوله ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوه يحببكم الله))(22) فلو جازت عليه الكبائر والخسائس لكنا مأمورين بارتكابها حال إتباعنا لهم فيها وهو باطل (ومنها) أنهم لو جاز عليهم ذلك لكانوا غير مقبولي الشهادة في شيء من أمور الدنيا لقوله تعالى ((إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا))(23) فكيف يقبل منهم ما جاؤوا به عن الله تعالى (ومنها) أنه لو جاز عليهم ذلك لدخلوا تحت اللوم والتوبيخ من قوله تعالى ((أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم))(24) (ومنها) انه لو جاز عليهم ذلك لجاز عليهم الزجر والتعنيف لعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون ذلك إيذاء في حقهم وهو محجور (ومنها) لو جاز عليهم ذلك لضوعف العذاب في حقهم ولكانوا أشر من فساق العوام لأن ذا المنصب العالي إذا عصى كان العصيان أقبح منه ولضوعف عليه العذاب بدليل ((من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين))(25) (ومنها) قوله تعالى ((لا ينال عهدي الظالمين))(26) ولا عهد فوق النبوة (ومنها) قوله تعالى ((ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين))(27) (ومنها) أنه تعالى قسم المكلفين قسمين فجعلهم حزبين وحزب الشيطان هم العصاة وهم الخاسرون ((ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون))(28) وأنت إذا تأملت هذه الأدلة كلها رأيتها أدلة لعدم الوقوع لا لرفع الجواز بالكلية لكن دليلنا على رفع الجواز أن نقول هكذا لو جاز عليهم ذلك لوقع منهم أو من أحدهم كما وقع من غيرهم لكنه لم يقع منهم ولا من أحدهم فدل على أنهم معصومون منه، ودليل آخر هو قوله تعالى حكاية عن إبليس ((إلا عبادك منهم المخلصين))(29) وقوله ((إن عبادي ليس لك عليهم سلطان))(30) ولا شك أن الإخلاص لم يفارقهم منذ اصطفاهم الله لوحيه وإنهم عباده المصطفون وإذا كانوا كذلك فليس للشيطان عليهم سبيل فثبتت لهم العصمة (لا يقال) إن هذا الدليل ناف لارتكابهم الصغائر الخفيفة أيضا (لأنا نقول) إن صدور مثل ذلك منهم ليس هو من تسليط الشيطان عليهم وإنما منشأ ذلك غفلة أو سهو أو تأويل من فاعله كما في قصة آدم عليه السلام (فإن قيل) إن ما وقع لآدم هو من كيد الشيطان لأنه هو الموسوس والمزين لهم ذلك (اجبنا) بأنه ليس ذلك من تسليط الشيطان عليه وإنما وقع بتأول آدم عليه السلام النهي عن شجرة مخصوصة لا عن جنس تلك الشجرة فأكل من شجرة غير المشار إليها لكنها من جنسها كذا قيل، وفي ظاهر قوله تعالى حكاية عن إبليس ((ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة))(31) ما يرده لكن الجواب عنه أن آدم عليه السلام نسي النهي فأكل بعد النسيان لقوله تعالى ((ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي))(32) ولا يرد هذا بذكر إبليس لهم النهي لاحتمال أن يكون النسيان بعد ذلك وهذا الاحتمال موجود أيضا في تأول آدم النهي عن شجرة بعينها لا عن جنسها فإنه وإن أشار إليها الخبيث فيحتمل أن يكون آدم عليه السلام لم يلتفت إلى تلك الإشارة وقيل أكل آدم من الشجرة قبل أن ينبأ، وعليه فلا إشكال لأنا لا ندعي العصمة للأولياء بل للأنبياء ولا ندعيها أيضا لهم قبل النبوة.
وما عدا ذلك فهو ممكن = في حقهم إلا الذي يستهجن
(قوله وما عدا ذلك) أي المذكور من واجب ومستحيل فهو ممكن أي جائز في حقهم. أخر هذا القسم عن الواجب والمستحيل لأنه بمنزلة المركب منهما حيث جاز لهم الطرفان الفعل والترك، وذلك كالأكل والشرب والنوم والجماع، ومخالطة الناس والمشي في الأسواق نحو ذلك من الخصال الجبلية التي خلقوا محتاجين إليها لا يستطيعون منع أنفسهم عنها أو التي خيروا في فعلها وتركها (قوله إلا الذي يستهجن) أي يستقبح أي يستثني من جواز ما عدا ذكره من الواجب والمستحيل الأشياء التي يستقبح فعلها للأنبياء كالبول قياما، فإن القوم رووا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باطل لقوله تعالى ((وإنك لعلى خلق عظيم))(33) وأن البائل قائم ليس على خلق حسن فضلا من أن يكون على خلق عظيم.
-------------------------------
1 - الحديث رواه البخاري في كتاب الصلاة 88 باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.
صفحة ٢٠