أبو بكر الرازي
في مدينة (الري) القريبة من (طهران) ولد (أبو بكر محمد بن زكريا) سنة 251ه/865م وسمي بالرازي نسبة إلى مدينة (الري) التي ولد فيها، أحب الرازي الغناء والضرب على العود في بداية حياته، ثم هجر ذلك كله واتجه إلى الطب والكيمياء، يقرأ فيهما كثيرا، وأراد أن يجري إحدى التجارب الكيميائية، فاستنشق غازا ساما سبب له مرضا شديدا، وعالجه أحد الأطباء حتى شفي، وكان له صديق يعمل بالصيدلة، فأخذ يتردد عليه، وطالع كثيرا من الكتب عن الطب، حتى أصبح طبيبا مشهورا.
ولما بلغ سن الأربعين، صار أشهر أطباء عصره، فطلب منه الخليفة العباسي (المقتدر بالله جعفر بن المعتضد) إنشاء مستشفى في مدينة (بغداد) عاصمة الخلافة ففكر طويلا واستشار أصدقاءه وتلاميذه، وأخذ يناقش معهم أنسب الأماكن لإقامة المستشفى، وبعد طول بحث ونقاش أدهش الجميع بفكرته الرائعة، حين أخذ قطعة لحم كبيرة، وقطعها إلى قطع صغيرة، ووضعها في أماكن مختلفة من ضواحي مدينة بغداد، وانتظر بضعة أيام، ثم طاف على الأماكن التي وضع القطع فيها ليرى تأثير الجو والزمن عليها، فإذا تلفت القطعة بسرعة اعتبر أن هذه المنطقة لا تصلح لإقامة المستشفى، أما إذا ظلت قطعة اللحم كما هي دون أن يصيبها التلف، أو تأخر، فهذا دليل على طيب هواء المنطقة، وصلاحيتها لإقامة المشروع، وهكذا وقع اختياره على المكان المناسب لإقامة مستشفاه.
ذهب الرازي إلى الخليفة ينصحه ببناء المستشفى في هذا المكان، فأعجب الخليفة بذكائه، وأمر أشهر المهندسين، وأمهر البنائين بتشييدها وبنائها، حتى تم البناء، فكان الرازي هو مدير ذلك المستشفى ورئيس أطبائه بتكليف من الخليفة، واعتاد الرازي أن يشرك تلاميذه في استشاراته الطبية، فكان يجلس في بهو المستشفى الكبير ومن حوله الأطباء أصحاب الخبرة في الدائرة القريبة منه، ثم الأطباء المبتدئون في الدائرة الخارجية، وعند حضور أحد المرضى يعرض حالته أولا على المبتدئين، فإذا لم يستطيعوا معرفة نوع المرض، انتقل المريض إلى الدائرة الداخلية ليفحصه الأطباء المتمرسون، فإذا لم يعرفوا تشخيص حالة المريض، تولى الرازي بنفسه فحص المريض ومعالجته.
وكانت طريقة الرازي مميزة في العلاج إذ أنه كان يتعرف أولا على أعراض المرض في دقة وصبر، ثم يحصر الاحتمالات التي تشير إلى حقيقته، ثم يستبعد منها ما توحي خبرته وملاحظاته بضرورة استبعاده، فإذا عرف المرض وتأكد منه، وصف له العلاج، وتتبع حالة المريض، وكان النجاح يحالفه في أكثر الحالات التي عرضت عليه.
وكان الرازي دائما ينصح تلاميذه أن يساعدوا الفقراء بأن يعالجوهم مجانا، ويعلمهم أن مهنتهم مهنة الرحمة بالضعفاء والمعذبين، وأن عليهم مساعدة مرضاهم على الشفاء بالكلمة الطيبة، وإحياء الأمل في نفوسهم ورفع روحهم المعنوية، كما كان ينصحهم بالمدوامة على القراءة والبحث والاطلاع في المراجع الطبية مهما بلغوا من العمر والخبرة، كما نصحهم بالتعفف عند الكشف على النساء، والالتزام بالشريعة الإسلامية السمحة، ونهاهم عن الكبر والخيلاء.
وفي مكتبة البيمارستان (المستشفى) كان الرازي يقرأ على تلاميذه ما قاله الفلاسفة من الأطباء القدماء عن الأمراض المختلفة، وكان من رأيه أنه يجب على الأطباء أن يعرفوا تشريح أعضاء الجسم، لذلك كان يأتي بالقرود من بلاد زنجبار في أفريقيا ويجري عليهم تجاربه أمام تلاميذه، فإذا نجحت التجربة على الحيوان يقوم بإجرائها على الإنسان. وكان الرازي من أشد المعجبين بجابر بن حيان، فقرأ كتبه، واستطاع أن يطور الكثير مما اكتشفه أستاذه (جابر) وأجرى مئات التجارب الكيمائية، وكان دائم البحث عن أدوية جديدة ووسائل مبتكرة تنفع في علاج المرضى، فحصل على (الكحول) من تقطير المواد النشوية والسكرية المتخمرة، واستعمله في علاج بعض الأمراض، وصنع الأدوية الطبية، واخترع الأنبوب الذي يخرج الدم الفاسد خارج الجرح، ونجحت تجاربه في خياطة أجهزة الجسم الداخلية بخيوط تصنع من أمعاء الحيوانات.
ومن أهم إنجازات الرازي العلمية والطبية أنه اكتشف مرض الحساسية، وكذلك (اليرقان) الناجم عن تكسر الدم، وميز بينه وبين التهاب الكبد المعدي، واكتشف أيضا مرض الحصبة، وميز بينه وبين مرض الجدري، واستعمل الرازي خبرته كعالم كيميائي في إدخال بعض المركبات الكيمائية لأول مرة في العلاج.
وكان الرازي من أوائل الأطباء الذين يعالجون مرضاهم بأسلوب نفسي بدون أدوية.. ويأتي بالقصاصين إلى المستشفى ليقصوا على المرضى القصص والحكايات ليرفهوا عنهم، وينسوهم آلام المرض، واستمر الرازي في خدمة مرضاه، وكلما اكتشف شيئا جديدا؛ ازداد تواضعا وحبا لعمله، وظل الرازي يبحث ويفكر ويكتب الكثير من الكتب؛ فترك لنا نحو 224 كتابا في الطب والصيدلة والكيمياء وغيرها من العلوم المختلفة، ومن أشهر كتبه: كتاب (الحاوي) الذي يعد من الكتب المهمة في مجال الطب، وكان مرجعا للأطباء، وترجمه الأوربيون واستفادوا منه، وقد سماه (الرازي) الحاوي لأن كتابه هذا يعد موسوعة علمية طبية تحوي كل الكتب والأقاويل الطبية القديمة من أهل صناعة الطب، ويقع في عشرين مجلدا، ويتناول الكتاب جميع الأمراض الموجودة في جسم الإنسان، ومعالجتها وكيفية الوقاية منها قبل وقوعها.ومن كتبه المهمة: (رسالة في الجدري والحصبة) وهي رسالة علمية هامة، وكتاب (أخلاق الطبيب) الذي شرح فيه الرازي العلاقة الإنسانية بين الأطباء والمرضي، وبينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين الحكام، كما تحدث فيه أيضا عن نصائح عامة للمرضى في تعاملهم مع الأطباء، وكتاب (المنصوري) وهو أقل حجما من الحاوي فقد جعله الرازي عشرة أقسام في أبواب الطب، وفي القسم الثامن تجارب أجراها على الحيوانات لاختبار أساليب جديدة في العلاج، وكتاب (سر الأسرار) من أشهر مؤلفاته في الكيمياء.
ومن كتبه الأخرى: (قصص وحكايات المرضى) و(المدخل الصغير إلى الطب) و(الطب الروحاني) و(رسالة في الداء الخفي) و(المدخل التعليمي) و(مجموعة الرسائل الفلسفية).. وغير ذلك من كتب كثيرة تحتوي على كثير من المعارف والعلوم التي درسها الرازي، واستمر الرازي يجري التجارب حتى أثرت أبخرة المواد الكيميائية على عينيه؛ فضعف بصره، وفي ليلة من ليالي عام 311ه/923م مات الرازي، بعد أن ترك تراثا طبيا عظيما
صفحة ٦٩