الخليل بن أحمد الفراهيدي
(اللهم هب لي علما لم يسبقني إليه أحد).. قالها وهو يتضرع إلى الله متعلقا بأستار الكعبة، كان يرجو أن يسبق الناس بوضع علم جديد، فيكون سباقا إلى الخير، ولم يكن هذا الرجاء وليد تكاسل وتواكل، بل كانت قدراته ومهاراته تؤهله لأن يكون عظيم الشأن.
هو (الخليل بن أحمد الفراهيدي) الذي ولد في البصرة عام (100ه) ونشأ عابدا لله تعالى، مجتهدا في طلب العلم، واسع المعرفة، شديد الذكاء، أدرك الخليل بفطرته السليمة أن الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة، فاجتهد في طلب العلم وأخلص في طلبه؛ فكان غيورا على اللغة العربية (لغة القرآن)؛ مما دفعه إلى العمل على وضع قواعد مضبوطة للغة، حتى عده العلماء الواضع الحقيقي لعلم النحو في صورته النهائية، التي نقلها عنه تلميذه (سيبويه) في كتابه المسمى (الكتاب) فذكره وروى آراءه في نحو ثلاثمائة وسبعين موضعا معترفا له بوافر علمه، وعظيم فضله.
وذات يوم ذهب الفراهيدي إلى الكعبة حاجا، فتعلق بأستار الكعبة، ودعا الله أن يهب له علما لم يسبقه أحد إليه، ثم عاد إلى وطنه، فاعتزل الناس في كوخ بسيط من خشب الأشجار، كان يقضي فيه الساعات الطويلة يقرأ كل ما جمعه من أشعار العرب، ويرتبها حسب أنغامها، ويضع كل مجموعة متشابهة في دفتر منفرد..
وذات يوم مر الخليل بسوق النخاسين، فسمع طرقات مطرقة على طست من نحاس، فلمعت في ذهنه فكرة علم العروض -ميزان الشعر أو موسيقى الشعر- الذي ميز به الشعر عن غيره من فنون الكلام، فكان للخليل بذلك فضل على العرب، إذ ضبط أوزان الشعر العربي، وحفظه من الاختلال والضياع، وقد اخترع هذا العلم وحصر فيه أوزان الشعر في خمسة عشر بحرا (وزنا) وكما اهتم بالوزن اهتم بضبط أحوال القافية -وهي الحرف الأخير في بيت الشعر، والتي يلتزم بها الشاعر طوال القصيدة- فأخرج للناس هذين العلمين الجليلين كاملين مضبوطين مجهزين بالمصطلحات.
ولم يكتف الخليل بما أنجزه، وبما وهبه الله من علم؛ استجابة لدعائه وتوسله وتضرعه، فواصل جهوده وأعد معجما يعد أول معجم عرفته اللغة العربية، وامتدت رغبته في التجديد إلى عدم تقليد من سبقوه، فجمع كلمات المعجم بطريقة قائمة على الترتيب الصوتي، فبدأ بالأصوات التي تنطق من الحلق وانتهي بالأصوات التي تنطق من الشفتين، وهذا الترتيب هو (ع- ح- ه- خ- غ...) بدلا من (أ- ب- ت- ث- ج ...) وسماه معجم (العين) باسم أول حرف في أبجديته الصوتية.
وعرف الخليل بالتعبد والورع والزهد والتواضع، وكان إذا أفاد إنسانا شيئا لم يشعره بأنه أفاده، وإن استفاد من أحد شيئا أجزل له الشكر، وأشعره بأنه استفاد منه، وقيل في زهده: أقام الخليل في خص له بالبصرة لا يقدر على فلسين (قدر ضئيل من المال) وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال، وأرسل إليه سليمان بن علي -والي منطقة البصرة- ليأتيه يؤدب ولده، فأخرج الخليل خبزا يابسا، وقال: ما عندي غيره وما دمت أجده فلا حاجة لي في سليمان، ثم قال لرسول سليمان:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غني غير أني لست ذا مال
والفقر في النفس لا في المال تعرفه ومثل ذاك الغني في النفس لا المال
وقال: إني لأغلق علي بابي فما يجاوزه همي، وذلك لانصرافه عن الدنيا واستغراقه في العلم والعبادة، وذات يوم دخل المسجد وهو شارد البال مستغرق الفكر فاصطدم بسارية (عمود) المسجد فانصدع رأسه ومات سنة 170ه
صفحة ٥٢