محمد محمود الصواف.. رائد الحركة الإسلامية في العراق
محمد محمود الصواف
بقلم: عبده مصطفى دسوقي
في مدينة الموصل أول شوال 1333ه، الموافق 12 من أغسطس 1914م، ولد الشيخ محمد محمود الصواف، ونشأ على حب العلم والجهاد، واعتنى به والده منذ الصغر، فعلمه القرآن حتى حفظه وهو صغير، ثم أدخله المدرسة الابتدائية الأهلية بالجامع الكبير بالموصل، وبرز فيها ثم انتقل إلى مدارس المساجد التي يشرف عليها العلماء، فتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ودرس النحو والسيرة النبوية، وفي ذلك يقول: "العراق وطني الأول الذي ولدت فوق أرضه وتحت سمائه وترعرعت في ربوعه، لقد عشت في بلد الموصل الذي عرف بتمسكه بدينه وحرصه على مثله، هذا البلد الذي أنجب عماد الدين زنكي ونور الدين محمود.. لقد كنا نتسابق لحضور صلاة الفجر صغارا وكبارا وبعد الصلاة ننشغل بذكر الله وتلاوة القرآن، وكان يسكن بجواري الشيخ محمد الرضواني، رحمه الله، الذي علمني حب الله منذ نعومة أظفاري، وعملت للدعوة مبكرا والتحقت بجمعية الشبان المسلمين في الثلاثينيات والتي كان يرأسها الشيخ عبد الله النعمة، فكنت أصغر من انتسبت إليها".
درس بالمدرسة الفيصلية ونال شهادتها وبعد ذلك انتقل إلى الأزهر الشريف عام 1358 ه، وقد عرف بذكائه العجيب وتفوقه في مراحل دراسته، وسافر إلى مصر مرتين وفي بعثتين مختلفتين؛ الأولى فشلت وكانت بعثة مديرية الأوقاف العامة، والثانية كانت بعثة على نفقة الوجيه الموصلي مصطفى الصابونجي، والذي اختاره ليكون رئيسا لهذه البعثة وكان ذلك عام 1943م.
وبعد أن أنهى الشيخ دراسته بالمدرسة الفيصلية ونال إجازتها سنة (1355ه الموافق 1936)، لم يلبث أن عين معلما غير أنه استقال من الوظيفة، وشد الرحال إلى القاهرة وبعد فشل هذه البعثة عاد فعينه رئيس الوزراء رشيد الكيلاني واعظا سيارا، وبعد انتهاء البعثة الثانية والتي سافر فيها إلى مصر، عاد للعراق وعمل في كلية الشريعة بالأعظمية ببغداد.
الصواف ودعوة الإخوان
الشيخ محمد محمود الصواف
التحق الشيخ الصواف بعد قدومه إلى القاهرة سنة (1363ه= 1943م) بالجامع الأزهر طالبا بكلية الشريعة، ودفعته همته العالية أن يختصر سنوات الدراسة الست في ثلاث، فنجح في الحصول على عالمية الأزهر في سنتين بدلا من أربع، وعلى شهادة التخصص في سنة واحدة بدلا من سنتين، وكان نظام الأزهر يسمح بذلك، ويعطي للنابغين والمجتهدين أن يختصروا السنوات ما دامت ملكاتهم تعينهم على ذلك، وتحصيلهم الدراسي يمكنهم من هضم المناهج الدراسية في نصف المدة المقررة على الدارسين، وكان لهذا الإنجاز حديث مدو بين أوساط العلماء، وتناقلته بعض الصحف، وبلغ من تقدير الإمام الأكبر الشيخ المراغي أن قال للصواف: لقد فعلت يا بني ما يشبه المعجزة، وسننت سنة في الأزهر لم تكن".
ومنذ أن توطن مصر للعلم اتصل بالجمعيات الإسلامية والعلماء وكبار الأدباء أمثال الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر، والشيخ طنطاوي جوهري صاحب جمعية الأخوة الإسلامية ورئيس تحرير مجلة الإخوان المسلمين، كما اتصل بالشيخ محمد الخضر حسين صاحب جمعية الهداية الإسلامية، والعقاد وأحمد أمين ومحمد فريد وجدي ومحب الدين الخطيب، ثم التقى بالإمام الشهيد حسن البنا، والذي سرعان ما تأثر بمنهجه في الدعوة، ويصف هذا قائلا: "وأخيرا استقر بي المقام بلقاء الإمام الشهيد حسن البنا- رحمه الله- وحضرت دروسه في المركز العام في الحلمية، وأعجبت بنشاطه وأسلوبه الحكيم والرصين في الدعوة إلى الله، ثم قرت عيني بتلك الأفواج الصاعدة من شباب الإسلام التي رباها على الإيمان، فتوطدت علاقتي له وازداد حبي وإعجابي به، وبادلني رحمه الله حبا بحب وعطفا بعطف، وتوثقت علاقتي بالجماعة وعملت في محيطها، فأسسنا فيها قسم "الاتصال بالعالم الإسلامي" بالتعاون مع الأخ عبد الحفيظ الصيفي من مصر والأخ الفضيل الورتلاني من الجزائر والأخ إسماعيل مندا من إندونيسيا، فكنا نقيم كل ثلاثاء قبل درس الثلاثاء اجتماعا في المركز العام لنباشر عملنا في القسم".
ولقد كتبت مجلة الإخوان المسلمين تحت عنوان "نجاح أخ كريم": "يسر قسم الاتصال بالعالم الإسلامي بالمركز العام للإخوان المسلمين أن يزف التهنئة الحارة الخاصة إلى أحد أعضائه العاملين الأخ الكريم الأستاذ محمد محمود الصواف رئيس البعثة العراقية بالأزهر، وقد كان نجاحه ممتازا في الشهادة العالية بكلية الشريعة، وهو أول عراقي ينالها، ومما يزيد فخرا أنه أول سباق إلى اجتياز مرحلة الدراسة لهذه الشهادة في سنتين، رغم أن مدتها أربع سنوات، وقد أثنى مجلس الأزهر على كفايته العلمية وهمته العالية".
الدعوة في العراق
بعد أن أتم الشيخ الصواف دراسته عادت البعثة مرة أخرى للعراق لينطلق في الدعوة إلى الله عز وجل فعمل في المساجد والجمعيات بالموصل، وانضم إلى جمعية الشبان المسلمين، ثم أنشأ جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسس مع الشيخ أمجد الزهاوي جمعية الأخوة الإسلامية، وتحت لوائها عاش الشباب المسلم، وتمرس بمعاني الدين الحق، كما أنه أصدر مجلة الأخوة الإسلامية؛ لتكون وسيلة لبث الوعي الإسلامي الصحيح، كما أنه عمل في كلية الشريعة والتي أنشأت في بغداد لتوها.
جهاده
أولا: ضد الإنجليز
لم يكن الشيخ من أولئك المعلمين الذين تنقطع صلاتهم بمن حولهم مكتفين بما يدرسونه في قاعات العلم، بل كان رجلا مجاهدا مصلحا ومربيا معلما، يلقي دروسه بين طلابه، وفي الوقت نفسه يقود المقاومة الشعبية ضد الإنجليز المحتلين، ويحرك المظاهرات الصاخبة، ويلقي بخطبه النارية التي تلهب المشاعر وتؤجج العواطف، وحرك المظاهرات ضد المعاهدات التي تقيد العراق وتربطه بالإنجليز كمعاهدة (بورتسموت) والتي استطاع أن يفشل مباحثاتها، كما أسهم وتلامذته في العراق بإسقاط معاهدة "جبر- بيفن" الاستعمارية.
ثانيا: نحو الدول الإسلامية
شغلت القضية الفلسطينية على الشيخ كل وجدانه، فعمل على التصدي للمخطط الصهيوني، بل أرسل المتطوعين العراقيين ليكونوا جنب إخوانهم الفلسطينيين ولينضموا في ركاب كتائب الإخوان المسلمين للدفاع عن فلسطين عام 1948م.
ولقد أخذت قضية فلسطين الحظ الأوفر من كفاحه وبذله، فقد أسس جمعية إنقاذ فلسطين التي ضمت نخبة من العلماء المفكرين؛ كالشيخ علي الطنطاوي والشهيد سيد قطب والشيخ أمجد الزهاوي والشيخ محمد أمين الحسيني، وغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى، وعملت هذه الجمعية على شرح القضية الفلسطينية للبلاد الإسلامية وجمع الأموال والتبرعات وتجهيز المتطوعين للدفاع عن أرض فلسطين الطاهرة، كما دعت إلى مؤتمر القدس عام 1953م بالتعاون مع مؤتمر العالم الإسلامي؛ حيث حضره عدد كبير من العلماء، وقد أظهر الشيخ قضية فلسطين على أنها قضية كل المسلمين لا قضية أهل بلد معين.
ويقول في مقدمة كتابه "معركة الإسلام" في سياق كلامه عن معركة المسلمين في فلسطين: "هي امتداد لمعارك صلاح الدين بالأمس، ومهما حاول المضللون والمنافقون وأعداء الإسلام تغيير هذا الواقع فإن الحق لن تغلبه قوة الباطل، وإن المعركة ستسير في طريقها المنحرف حتى يقيض الله عز وجل القادة المسلمين عقيدة وعملا وجهادا".
كما أن قضية المجاهدين الأفغان ملكت عليه مشاعره؛ ففي السنوات العشر الأخيرة من عمره أنفق معظم وقته في خدمة الجهاد الأفغاني الذي ملك عليه نفسه، وصار قضيته الأولى، وسخر لها كل طاقاته، داعيا الأمة الإسلامية إلى مؤازرة المجاهدين والوقوف إلى جانبهم ومعاونتهم، وحين ظهرت بذرة الخلاف بين فئات المجاهدين وقادتهم، بادر الشيخ إلى وأد الفتنة قبل أن تستفحل، وكانت مواعظه وكلماته المؤثرة العامرة بالإيمان تشيع النور في الصدور، وتعين على نماء علاقات الود والصفاء بين المتخاصمين من زعماء الجهاد.
ولم يتوقف نشاط الشيخ الصواف على ذلك، بل انتدبه الملك فيصل بن عبد العزيز للعمل معه مبعوثا من قبله إلى ملوك المسلمين ورؤسائهم، وقد نهض الشيخ الجليل بهذه المهمة على خير وجه، وطاف أكثر من خمس سنوات، وقد أثمرت هذه الجهود المباركة عن تكوين منظمة المؤتمر الإسلامي، وقد سجل الشيخ الصواف هذه الرحلات في كتاب كبير تحت اسم "رحلاتي إلى الديار الإسلامية".
وكانت له مواقف بطولية أمام تجبر الطغاة والمستعمرين، وكان أول كتاب صدر له كتاب "صرخة مؤمنة إلى الشباب والشابات" يلهب فيه الحماس ويحرك المشاعر ويدعوهم فيه إلى الحق والخير والالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة، وكانت له مواقفه المساندة للثورة الجزائرية مع أخويه الورتلاني والإبراهيمي، ودعاهما لزيارة العراق، ونظم لهما المؤتمرات الشعبية لمساندة الثورة وقضية الشعب الجزائري، ولم يترك مدينة بالعراق إلا وزارها، ودعا جماهيرها إلى منهج الإسلام وطريق الدعوة، كما زار معظم الأقطار، ينشر دعوة الإسلام.
وفي السنوات العشر الأخيرة من عمره أعطى وقته وجهده للجهاد الأفغاني، يناصره ويسانده، ويصلح بين فئات المجاهدين ليمنع الفتن التي يكيدها أعداء الإسلام ويخطب، يبكي الحضور، ويملأ القلوب إيمانا وعزيمة.
محنته
الصواف مع مجموعة من الإخوان
قامت ثورة 1958م في العراق بقيادة عبد الكريم قاسم، وسيطر الشيوعيون على مقاليد الأمور في البلاد، وبدؤوا يضيقون الخناق على دعوة الشيخ الصواف، ويقاومون حركته، وانتهى بهم الحال إلى تلفيق التهم له، ونشر الشائعات ضده، ثم قاموا بإغلاق المجلة التي كان يصدرها باسم "لواء الأخوة الإسلامية" والقبض عليه، وسجنه مع عدد من رجالات العراق الكرام مثل اللواء الركن محمود شيت خطاب.
بعد خروجه من السجن لم يكف خصومه عن ملاحقته ومحاولة اغتياله، فاضطر إلى مغادرة بغداد في سنة (1379ه= 1959م) في مغامرة جريئة محفوفة بالمخاطر حتى بلغ الحدود السورية، واستقبل في حلب ودمشق استقبالا حافلا، ثم اتجه إلى المملكة العربية السعودية عام 1962م، واستقر بمكة؛ حيث عمل مدرسا بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، وعرف القائمون على الأمور فضله وعلمه، فاختير عضوا بالمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وفي المجلس الأعلى للمساجد، والمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي.
مؤلفاته
وأضاف الشيخ إلى المكتبة الإسلامية مؤلفات كثيرة؛ مثل:
1- أثر الذنوب في هدم الأمم والشعوب، وطبعته دار الاعتصام بالقاهرة سنة 1402ه.
2- المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، وطبع بمكة المكرمة سنة 1384ه.
3- معركة الإسلام.. أو وقائعنا في فلسطين بين الأمس واليوم، وطبع بمكة سنة 1389ه.
4- من سجل ذكرياتي، وطبع بدار الخلافة بالقاهرة سنة 1407 ه.
5- نداء الإسلام، وطبع بعمان سنة 1382ه.
6- بين الرعاة والدعاة، وطبع بالقاهرة في دار الاعتصام سنة 1399ه.
7- صفحات من تاريخ الدعوة الإسلامية في العراق، وطبع بالقاهرة في دار الاعتصام 1401ه.
8- تعليم الصلاة.
9- العلامة المجاهد أمجد الزهاوي شيخ علماء العراق المعاصرين، وطبع بالقاهرة في دار الاعتصام سنة 1408ه.
وفاته
توفي الشيخ يوم الجمعة الموافق (13 من ربيع الآخر سنة 1413ه= 11 من أكتوبر 1992م) في مطار إستانبول؛ حيث كان ينتظر الطائرة التي تقله إلى مكة المكرمة، وقد نقل جثمانه ودفن في مقابر المعلاة بمكة، بجوار قبر الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير.
ولقد رثاه الشاعر وليد الأعظمي في قصيدة قال فيها:
أكبرت يومك أن يكون وداعا يا مالئ الوادي هدى وشعاعا
يا باعثا همم الشباب إلى العلى لولاك كادوا يذهبون ضياعا
يا داعيا لله أفنى عمره سعيا ليهدم للفساد قلاعا
ومربيا للناشئين موجها أفكارهم كي يبدعوا إبداعا
وأخذت بالرفق حتى جانبوا سبل الهوى وسرابها اللماعا
يا شيخ أمتنا وحامل همها أفنيت عمرك متعبا ملتاعا
جاهدت في عرض البلاد وطولها تتجاوز الأقطار والصقاعا
تبكي على القدس الشريف وأهله باتوا عراة في الخيام جياعا
قد كنت ربان السفينة عندنا تمضي وترفع للنجاة شراعا
علمتنا أن الجهاد سبيلنا للمجد نمضي راكضين سراعا
أبشر بفضل الله يوم لقائه بركاته تترى عليك تباعا
المراجع
1- محمد محمود الصواف: صفحات من تاريخ الدعوة الإسلامية في العراق، دار الاعتصام.
2- مجلة الإخوان المسلمين نصف الشهرية، العدد (64)، السنة الثالثة، 17 شعبان 1364ه- 26 يوليو 1945م، ص(23).
3- محمد عبد الحميد أحمد: ذكرياتي، دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية، سنة 1993م.
4- عبد الله العقيل: من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
5- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين (ظروف النشأة وشخصية الإمام المؤسس)، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2003م.
----------
باحث تاريخي- Abdodsoky1975@hotmail.com
صفحة ١٧١