ثالثا:
يجب على الباي والأتراك أن يتركوا العاصمة بأسرع ما يمكن من الوقت، فما انتهيت من قراءة هذا الشرط حتى سمعت ضجة من الموجودين ملأت جوانب الديوان؛ إذ قام الباي من مكانه وهو مصفر اللون ينظر إلى الموجودين أمامه وحوله نظرة الاضطراب والقلق، فما كنت أسمع إلا التهديد وعبارات القتل والموت من أفواه القواصة الذين شهروا سيوفهم فوق رأسي، فقلت في نفسي هذا هو القضاء المبرم، لولا أن الباي صرخ فيهم صرخة شديدة وأشار إلي أن أتمم القراءة.
رابعا:
يجوز للأتراك أن يأخذوا معهم أموالهم وأمتعتهم الخصوصية، وهم أحرار أن يذهبوا أين شاءوا. قال الترجمان: وبعد قراءة هذا الشرط الأخير اجتمعوا جميعا في ساحة الديوان للبحث فيما يوافق إجراؤه، فقسم منهم - وهم الفتيان الأتراك - أرادوا مداومة الحرب، ولكن أصحاب الكلمة المسموعة أثبتوا أنه ليس من وراء المقاومة إلا خراب البلد وهلاك أهلها، وبعد ذلك صدر أمر الباي أن يخلى الديوان، وما بقي فيه إلا هو ووزراؤه وأنا وسيدي مصطفى الذي كان يعيد قراءة الشروط لحسين باشا ويترجمها له على حسب هواه؛ لتخفيف ثقلها على الباشا الذي وقع عليها وسلمها لي، ثم أمر سيدي مصطفى والباش جاويش ومعه بعض العساكر أن يرافقوني إلى الباب الجديد، حتى إذا اقتربت من المعسكر الفرنسوي، وكنت في طمأنينة وأمان تركوني، ثم قابلت الجنرال وسلمته الشروط ممضاة، وفي تلك الليلة أصابتني حمى شديدة من الخوف كادت تقضي على حياتي.
وفي الغد استلمت العساكر الفرنسوية القصر والقلاع وأبواب المدينة والبنايات العمومية، قال قنصل الإنكليز للجنرال دي بورمون قائد عموم العساكر إنه يقدر ما كان من النقود في خزينة السراي بما لا يقل عن مائة وخمسين مليون فرنك، ولكن الإحصاء الرسمي الذي أمر الجنرال بإجرائه عن يد لجنة مخصوصة دل أن الذي وجد من المال بلغ خمسين مليون فرنك فقط، وكانت اللجنة قد طلبت الدفاتر قبل هذا الإحصاء من أمين خزينة حسين باشا، فقال إنه لم يكن عنده دفاتر منظمة، بل إن النقود تدخل وتخرج بأمر الباشا ودلها إلى أكوام العملة الذهبية من فرنسوية وإنكليزية ونمساوية متراكمة بعضها فوق بعض.
واستلم الجيش الفرنسوي مدينة الجزائر بكل ما فيها، فلجأ الباي إلى منزل خارج البلد، وذهب رؤساء القبائل وحسن بك حاكم وهران ومصطفى بك حاكم طيطري كل إلى محله. أما أحمد بك حاكم قسنطينة فإنه قال لإبراهيم آغا صهر الباي إنه قضى على حميه، والأوفق أن يأخذ أمواله ويتبعه فتبعه ومعه سبعون ألف مجر، ولكن أحمد بك سلب هذا المال منه فاضطر الرجل أن يعود من حيث أتى، وطلب حسين باشا مقابلة الجنرال فقابله في ديوان الحكومة، وكان ساعتئذ كالضيف والجنرال صاحب المحل، فبعد الحديث اختار حسين باشا أن يذهب إلى لفورنو من مدن إيطاليا، فأعدت له سفينة حربية نقلته من الجزائر مع عائلته، وهو يبكي على ملك ضاع ودولة دالت، وعز قضى فيه 12 سنة، وكان ذلك آخر عهد الجزائر بحكم البايات الذين استمرت دولتهم من سنة 1517 لغاية سنة 1830، وكان حسين باشا ينوي الحج إلى مكة بعد ذلك الانكسار، وقد وردت عنه حكاية في بعض الكتب ربما كانت صحيحة، هي أنه جاء الإسكندرية في عهد واليها محمد علي باشا، وكان محمد علي قد أرسل مرة يرجو حسين باشا ألا يؤذي التجار الفرنسويين، وذلك بطلب من حكومة فرنسا، فلما سمع حسين باشا قول المندوب المصري أجابه: قل لسيدك أن يأكل فولا، واستمر على عناده مع الفرنسويين، ثم قدر له الانكسار على ما علمت، والرحيل إلى الإسكندرية، فأكرمه محمد علي ودار به على جنوده ومواقعه ليفرجه عليها، وهو يبدي العجب من أين جاء كل ذلك؟! حتى إذا سأل هذا السؤال قال له محمد علي: إن هذا كله من أكل الفول.
ولما وصلت أخبار النصر إلى باريس طرب الناس لها وسروا، وأنعمت الحكومة برتبة مارشال على الجنرال دي بورمون، وحدثت مناوش صغرى بعد هذا مع بعض أهالي الداخلية لم تسفر عن نتيجة، ولكن الجيش الفرنسوي لم يوغل في البلاد؛ لأن حكومته أرادت الاكتفاء بالمدن البحرية، وربما أرادت أن تترك بقية البلاد يومئذ للدولة العلية؛ ولذلك أرسل القائد العام تجريدة صغرى إلى ثغر عنابة تحت قيادة الجنرال دامرمون، وتجريدة أخرى إلى وهران تحت قيادة ابنه الكولونيل دي بورمون (وسيأتي ذكر المدينتين في فصل السياحة)، فسلمت عنابة بلا قتال، ولكن العرب قاتلوا في أطرافها وهزموا، وسلمت وهران بلا قتال أيضا. وبينا كان الجيش الفرنسوي في ذلك بلغه أن ثورة سنة 1830 حدثت، وأن الملك لويس فيليب نصب على العرش بدل الملك شارل العاشر فجمع القائد العام جنوده في عاصمة الجزائر وسافر إلى باريس، وخلفه الجنرال كلوزيل.
ولما وصل القائد الجديد إلى الجزائر علم أن سلطة فرنسا منحصرة في الثغور، وأن القبائل عاملة على العناد وطلب الاستقلال مع حكام الأقاليم الذين سبق ذكرهم، وكان رؤساء الدين أبدا يحضون الناس على الجهاد، حتى إنهم نبهوا حكومة تونس إلى الخطر المحدق بها من فرنسا، وسعوا في إقامتها مع حكومة مراكش لمساعدتهم، فاهتم القائد الفرنسوي، وخطب في جنوده موضحا لهم الحالة، ونظم إدارة المدينة مستعينا بأفاضل الجزائريين وبعض الفرنسويين، وطلب من وزير الحرب في باريس أن يزيد جيشه إلى 18 ألفا وكان الباقي عنده 10 آلاف، فكان جواب الوزير أن قوته تكفي لإخضاع الجزائر، وعليه قام الرجل لقمع الثورة، فلما بلغ بليدا سلم أهلها له ورجوه ألا يدخل بلدتهم فأبى إجابة الطلب، وحارب العرب المتجمعين في أطرافها فطردهم منها ثم تقدم إلى الميدية - وهي في وسط الجبال - فاستولى عليها بعد قتال شديد، ولكن الأهالي استمروا على مضايقته بالمهاوش والمناوش، ولم يكن عدد الجنود الفرنسوية كافيا لإخضاع البكوات، فعاد القائد إلى عاصمة الجزائر وأبرم اتفاقا مع باي تونس أن يبقى على الحياد، ولكنه تعب من مخالفة وزير الحرب له في كل ما يفعل، فاستقال من القيادة وعاد إلى بلاده.
الأمير عبد القادر الجزائري.
وعين الجنرال تريزل سنة 1831 قائدا عاما في الجزائر، فحاول إصلاح الإدارة وإبطال الاختلاس فيها، وقام لمحاربة العصاة، فلم يفلح في أول الأمر، ولكنه عاود الكرة، وجرد حملات على عنابة ووهران، وقام هو بنفسه لفتح الميدية فرجع عنها مرة أخرى وأصاب عامله في عنابة فشل أيضا؛ لأنه أركن إلى تركي خدعه وأوقع جنده في المهالك، وكذلك حملة وهران عادت إلى الجزائر بالخسران. فلما علمت فرنسا بهذا فصلت الإدارة عن القيادة العسكرية، فجعلت الموسيو بيشون حاكما والجنرال روفيكو قائدا سنة 1832، وقد فاز هذا القائد بفتح ثغري وهران وعنابة بعد قتال كثير.
صفحة غير معروفة