وبعد هذا مررنا ببلدة أسترجوم التي كانت مقر القديس أسطفانوس أول ملوك المجر في آخر القرن العاشر للميلاد، وكان أسطفانوس هذا أول من نشر الدين المسيحي في بلاده وما يليها، وعظمت أسترجوم من بعده فصارت مقرا للمتاجر الواسعة فلما أغار عليها التتر سنة 1241 امحت آثار عظمتها، وتقلص ظل تجارتها وعادت فانتعشت قليلا في أيام بيلا، أحد ملوك المجر، ثم استولى عليها العثمانيون سنة 1543 وهدموا كنائسها فلما انجلوا عن النمسا برحوا هذه المدينة أيضا فعادت إلى التقدم والنماء، وتقدمنا من هنالك إلى جزيرة جميلة تعرف باسم مرغريت، فما عتمنا أن أبعدنا عنها وتوارت هي عنا حتى أشرفنا على مدينة بودا في الضفة الشرقية من نهر الدانوب، وتجاهها مدينة بست في الضفة الغربية، ومن هاتين المدينتين تتكون بودابست عاصمة المجر، فرست الباخرة قليلا في بودا ريثما نزل منها من نزل، ثم تحولت إلى الضفة الأخرى، ونزلنا في مدينة بودابست في فندق اسمه أوتيل هنغاريا (المجر )، وهو منزل واسع فخيم فيه ثلاثمائة غرفة بني على ضفة الدانوب ومنظر النهر والمدينتين منه في الليل من أجمل ما اكتحلت بمرآه العين؛ لأن الأنوار الكثيرة من السفن في الماء ومن المنازل في الجانبين تنعكس على الماء، ويضاف إلى رونقها خرير الماء والحركة الدائمة في كل جهة، فتجعل لهذه المدينة منظرا من أهم المناظر.
بودابست:
وأما مدينة بودابست وعدد سكانها ثمانمائة ألف نفس فهي مجموع مدينتين كما علمت، يوصل بينهما جسر عظيم سنذكره وزوارق من كل نوع تروح وتجيء ما بين الضفتين في كل آن، وقد أسست هذه المدينة على عهد الرومانيين، فلما أخلوها سنة 275 للميلاد توطنتها قبائل الغوطة، ثم جاءها أقوام الفندال سنة 337، ثم وافاها الهون سنة 407 وكلهم من أهل أوروبا الأول، وتلاهم غيرهم حتى استولى عليها شارلمان في القرن الثامن وملكها المجر بعد وفاته، ثم غزاها التتر على عهد باتوخان حفيد جنكيزخان المشهور في القرن الثالث عشر، فلما خرجوا منها أصلح بيلا ملك المجر ما تهدم من معالمها، وعمل على إعادة عزها المتردم فدعا إليها الناس من كل جانب ورغبهم في السكن والإقامة فجاءوها من بافاريا وإيطاليا وجزائر الروم وبولونيا، ومن ذلك الحين نمت وتقدمت ثم عادت وتأخرت من بعد هجمات الأتراك؛ لأنهم أعملوا السيف في أهلها وأضرموا النار في جوانبها سنة 1526 وسنة 1541، وأقاموا فيها من بعد هذه السنة ستين عاما ثم برحوها بعد متاعب كثيرة، ولكنهم عادوا إليها سنة 1604، فانتقموا من أهلها وظلوا فيها إلى سنة 1686 فلما خرجوا اهتم ملوكها بإعادة رونقها حتى بلغت شأوها الحالي، وهي الآن ثانية مدائن السلطنة النمسوية، وسكان هذه البلاد 15 مليونا هم خليط من أجناس كثيرة كالألمان والمجر والسرب والرومان والسلاف والأرمن والبلغار وبقايا الأتراك والأرناءوط والفرنجة، ولكن المجر - وهم 6 ملايين عدا - يسودون سواهم سيادة تامة في هذه البلاد، وأكثر الأحكام والأعمال الكبرى في يدهم، وقد تفرد هؤلاء القوم بحسن الخلق وكرم النفس وسعة العقل وجمال المنظر، ولعلهم كسبوا جمال الوجوه من كثرة الاختلاط، فإن نساءهم جمعن المحاسن الشرقية إلى المحاسن الغربية ، فهن في طبقة ممتازة بين أهل الجمال ولا سيما في العيون النجلاء والوجوه البيضاء.
وأهم ما يذكر عن بودابست: شارع أندراسي، وهو أعظم شوارعها سمي باسم الكونت أندراسي السياسي المجري المشهور الذي تولى الوزارات ورأسها مرارا، وكان من أقران بسمارك ودزرائيلي في السياسة، والشارع طوله ميلان وعرضه 40 مترا، وأرضه مرصوصة بالخشب وأرصفته واسعة، وفي جانبيه أشجار جميلة من ورائها القصور والمنازل والمخازن البهية؛ حيث تباع الأبضعة الثمينة، وفي هذا الشارع بناء الأوبرا وهو من الأبنية الجميلة تم بناؤه سنة 1884، ويعمل الآن فيه نخبة من أرباب الموسيقى المجرية، وهي ذات شهرة في أوروبا ذائعة فقل أن يجتمع جوق للغناء، ولا يغني أحد الأنغام المجرية، وأكثر أنغامهم حماسية، وهي أقرب إلى الشرقية من سواها، كما أن المجر أقرب من سواهم في الطباع والعوائد والهيئة والأخلاق إلى الشرقيين من معظم الأوروبيين حتى إنهم ليعدون أمة شرقية في أوروبا، ولبعضهم أسماء لا تختلف كثيرا عن الأسماء العربية والتركية، ولهم ملابس قديمة العهد يفخرون بها إلى الآن في بعض الأحيان هي شرقية في زيها، وفي الشارع بناء عظيم لإدارة سكك الحديد المجرية والمتحف، ومعظم ما فيه من آثار ملوك المجر وقوادهم وأسلحة قديمة ونقود ورايات وملابس، وغير هذا مما يؤخذ منه تقدم هذه الأمة من عهد بعيد، وفيه أيضا مجلس النواب المجري، وهو حديث البناء بالغ الزخرف والرواء يزيد إتقانا عن مجلس النواب في فيينا عاصمة السلطنة، وقد أنفقوا عليه نحو مليوني جنيه، وينتهي هذا الشارع بحدائق غناء فيها القصور الباذخة، ومن هنا ركبنا الترامواي الكهربائي إلى الحديقة العمومية، وفيها الحانات والمطاعم والمتنزهات والبحيرات وكل ما راق منظره من الزهر والشجر، حتى إنهم وجدوا فيها مياها كبريتية تفيد في الروماتزم وأمثاله، فبنوا فوقها حمامات يقصدها المستشفون، ولها منظر جميل ونظام بديع، وأما الترامواي الكهربائي الذي أوصلنا إلى هذه الحديقة فيختلف عن الترامواي المعروف في مصر في أن العربات تستمد قوتها من أسلاك تحت الأرض متصلة بالخط الحديدي الذي تسير عليه العربات ، فلا حاجة إلى مثل ما نرى هنا من العمد والأسلاك الكثيرة فوق رءوس المارة. وأغلب الشركات في فرنسا وإيطاليا جرت على الطريقة المعروفة في مصر، وأما إسبانيا وهولاندا وإنكلترا فإنهم يضعون البطارية التي تتولد منها الكهربائية الدافعة للعربات في العربة الأولى من القطار، ويقال بوجه الإجمال إن الترامواي الكهربائي لم يشع استعماله في أوروبا إلى الآن وربما كان إقبال الناس في مصر عليه أكثر من إقبالهم في مدائن أوروبا، وأكثر ما يكون الترامواي عندهم في الشوارع المتباعدة عن مراكز المدن حيث يقل الزحام، وأما في الشوارع الكبرى حيث تكثر الحركة فيندر أن تسير قطارات الترامواي، وهذا يخالف الذي تراه في مصر حيث مدت خطوط الترامواي في شوارع ضيقة تكثر الحركة فيها، مثل شارع كلوت بك ومحمد علي والفجالة، وقد نشأ عن ذلك صعوبة في مرور الناس والعربات على ما يعلم الجمهور.
قلنا إن المجريين اشتهروا بالموسيقى المعروفة عنهم، والحق يقال إنهم اشتهروا أيضا بالرسم والنقش والتصوير والشعر فهم أهل ذوق لطيف؛ لأنهم أتقنوا الفنون الجميلة ومن أكبر آيات الفخر عندهم أن يشير المرء منهم إلى جد له اشتهر بالشعر أو بالتصوير، وقد قام بينهم مشاهير بهذه الفنون وقادة وساسة كثار حتى إنك كيفما سرت في هذه المدينة العظيمة ترى رسم كبير أو نصب شهير من رجالهم، وأهل بودابست أكثر العواصم الكبرى نصبا وتماثيل من هذا النوع، وهم يتفاخرون بجميع الصور والآثار الفنية القديمة، فإني عرفت عائلة من عائلات السراة عندهم اسمها أسترهازي كان أحد أفرادها يتردد على مصر كل شتاء وينفق فيها الأموال الطائلة حتى آل به الأمر إلى الحاجة، فباع ما عنده من نفيس الرسوم وفاخر الصور بالمزاد العلني، واشترت حكومة المجر ما عنده بنحو مليونين وستمائة ألف فرنك سنة 1865، ونقلتها إلى متحف فرانس جوزف للفنون الجميلة، وإني قصدت هذا المتحف ورأيت غرائب الصناعة فيه، وأعظم صوره دينية تمثل حوادث ذكرت في الإنجيل والتوراة، مثل هرب المسيح إلى مصر، وصورة إبراهيم وامرأته هاجر وغير هذا، وأكثر الصور المتقنة من صنع موريلو المصور الإسباني المشهور وبعض المصورين المجريين، وقد أطلقوا اسم فرانس جوزف على أشياء كثيرة غير هذا المتحف، منها شارع كبير يمتد على طول ضفة الدانوب إلى البورصة الجديدة وإدارة الجمارك، والناس يقصدون هذا الشارع البهي من كل جانب للنزهة والفرجة بعضهم على بعض، وللجلوس في الأماكن العمومية الكثيرة فيه، وهي تشرف على الدانوب، وينتهي هذا الشارع أو الرصيف عند الجسر العظيم المعروف بالجسر المعلق، سمي بهذا؛ لأنه بني بدون عمد أو دعائم ركزت في وسط النهر، رسمه أحد مهندسي الإنكليز، وأنفقت مدينة بودابست على بنائه ثمانية ملايين وربع المليون من الفرنكات، وهو من أجمل الجسور المعروفة في الدنيا وأكبرها وأشهرها، طوله 418 مترا وعرضه 30 قدما، وارتفاعه عن سطح الماء 42، وفي طرفيه من هنا ومن هنا عمال يتقاضون رسما طفيفا من كل مار عليه، ومنظر المدينة إلى الجانبين من ذلك الجسر كثير الجمال.
ومما يذكر بين مناظر بودابست جزيرة صغيرة على مقربة من المدينة اسمها مرغريت أنفقوا ألوف الألوف على رسمها وتنظيمها وتحسينها وجعلوها متنزها لأهل العاصمة فصارت من أجمل المواضع التي تنشرح الصدور لمرآها؛ لأنها واقعة في وسط النهر وكلها محاسن طبيعية وصناعية، فترى الناس ينتابونها في كل يوم ولاسيما في أيام الأحد والأعياد، وهم يأتونها في زوارق وسفن بخارية صغيرة تقوم إليها كل نصف ساعة، وفيها غير ما تعلم من البرك والحدائق والمطاعم والحانات الكثيرة خط للترامواي تجر عرباته الخيل يسير في طول الجزيرة بين صفوف الشجر وغرائب المنظر، ويسمع في جانبها الأنغام المجرية تصدح بها الموسيقى الوطنية، ورجالها متردون بالملابس المجرية القديمة فيلذ للناس كثيرا سماع أنغامهم، ويظهر الجمع لهم الاستحسان بالتصفيق في نهاية كل دور، وللملابس البحرية القديمة شأن عند هؤلاء القوم، وهي تعرف باللون الأخضر الغالب فيها؛ لأنه شعار الأمة المجرية، فبعضهم يلبسون القبعات الخضراء في الاحتفالات الوطنية دليل تحمسهم وتذكرهم شعار الوطن؛ ولهذا أضيف إلى راية النمسا خط أخضر بعد انضمام المجر إليها، وأكثر ما يكون لبسهم للقبعات الخضراء خارج بلادهم ليظهروا للملأ جنسيتهم .
وجملة القول إن جزيرة مرغريت هذه من أحلى ضواحي بودابست وأبهاها، قضيت فيها النهار بطوله حتى إذا خيم الغسق عدت إلى المدينة وشهدت تمثيل رواية مجرية قديمة في الملعب الكبير رأيت فيها صفوفا من البنات المجريات بالملابس العسكرية المجرية، وهي قبعات خضراء مذهبة وسراويل بيضاء وستر قصيرة حمراء مزركشة بالقصب، وقد حمل أفراد هذا الجيش الجميل الرماح وتقلدن السيوف وسارت واحدة منهن بارعة الجمال في الطليعة فكان لمنظرهن بهجة تفوق الوصف.
هذا كله في مدينة بست أو هي القسم الشرقي من عاصمة المجر، وقد مر بك أن الجسر العظيم موصل بينهما، وأن النهر تملأه الزوارق والبواخر التي تروح وتجيء بالناس في كل ساعة بين الجانبين. وأما بودا فإننا رأينا حال وصولنا أنها بنيت على مرتفع من الأرض سفحه عند النهر وقمته عالية تشرف على ما بعد من المناظر، فهم يصعدون من السفح إلى القمة في آلة رافعة مثل التي يستعملونها في البنايات، وهي عبارة عن غرفة برياشها ومقاعدها ترتفع بالقوة الميكانيكية أو تنزل فتستقر حيث يريد الناس، فلما قعدنا فيها مع القاعدين وبدأت بالصعود تأملنا مدينة بست وهي أمامنا من وراء النهر، فإذا بها تهبط وتدور، والحقيقة أننا كنا نصعد فيخيل لنا ذلك حتى إذا وصلنا آخر المسافة كانت المدينة تحت نظرنا من أولها إلى آخرها، وكان لذلك المنظر غرابة لا يزول ذكرها من الذهن، وفي بودا هذه قلعة قديمة كانت في يد الأتراك فلما خرجوا من بلاد النمسا والمجر بقي رجال هذه القلعة فيها ودافعوا عنها دفاع الأبطال مدة أربعة أشهر، فأظهروا ما اشتهر عن أمتهم من البسالة الغريبة، ثم سلموا لتكاثر العدد عليهم، ولم يجد الفاتحون في القلعة حين دخولها غير عدد قليل من هؤلاء الرجال، ولم تزل آثار الترك باقية في هذه المدينة حتى إن فيها جامعا صغيرا وفيه مقام للشيخ جول بابا، بني على تل جميل المنظر، وقد بقي الجامع والمقام على حالهما الأول باتفاق تم بين الدولة العلية ودولة النمسا حين خروج الأتراك من بودابست ، وللجامع خادم تركي يلبس لبدة بيضاء وعمامة بيضاء صغيرة، وبقية ملابسه تحكي ملابس المشايخ الأتراك. والمسلمون في بودابست يحيون مولد صاحب المقام في كل عام باحتفال يذكر، وبعضهم يأتون من الآستانة لحضور هذا الاحتفال، وللمجر علاقة بالدولة العلية تزيد عن غيرها؛ نظرا لما بين المملكتين من القرب والاتصال ولا سيما بعد أن وصلت فيينا بالآستانة عن طريق بودابست هذه بسكة الحديد، وهي متصلة أيضا ببقية أوروبا حتى إنه ليمكن السفر في عربة واحدة من باريز إلى الآستانة على هذا الطريق، ولم يتم هذا الاتصال إلا في سنة 1888، فكان الذين يزورون الآستانة قبل ذلك عن طريق بودابست، يسافر إلى بخارست عاصمة رومانيا ومنها إلى بلغاريا، حيث تقوم باخرة من فارنا في الحدود البلغارية إلى الآستانة.
ومن أهم ما يذكر في بودا قصر فخيم للإمبراطور يقيم به حين يجيء المدينة، ويستقبل كبراء المملكة ووزراءها ونوابها، وأما النواب فلهم مجلس خاص بهم على مقربة من الشارع الكبير في بست، وقد اشتهر نواب المجر ببلاغتهم وفصاحتهم وغزارة معارفهم، وقام من بينهم فطاحل السياسة مثل أندراسي وتاف وتتسا وغيرهم، وهم أحرار في مبادئهم السياسية يميلون إلى التقدم مع الزمان، وقد سنوا لبلادهم نظامات حرة كثيرة الفائدة يحسدهم على مثلها النمسويون.
وفي بودا أيضا المجلس البلدي للمدينة، وهو لا يختلف عن المجالس البلدية الأخرى في ترتيبه ونوعه، وفيها كنيسة مار متى المشهورة بنيت في القرن الرابع عشر تجاه المجلس البلدي، كان ملوك المجر يعدونها خاصة بهم، وقد توج الإمبراطور فرانس جوزف الحالي ملكا للمجر في هذه الكنيسة سنة 1867. والذي يمكن وصفه في بودابست كثير وهي - كما تقدم القول - مدينة زاهرة عامرة، أهلها ذوو يسار ونعمة، وليس فيها ما في غيرها من قلاقل أهل الفوضى وكثرة الأحزاب، وأهلها راقون متعلمون لهم ولع بالأمور المجرية وميل إلى وطنهم شديد، فلما انقضت مدة زيارتي لهذه المدينة البهية عدت إلى فيينا ولكنني اخترت هذه المرة سكة الحديد بدل النهر حتى أرى الطريقين ما بين المدينتين، والخط يجري بإزاء النهر في أكثر الأحيان، ويتباعد عنه في مواضع فيدخل آونة بعد أخرى بلادا كثير جمالها يضيق المقام عن وصف أحوالها.
صفحة غير معروفة