البنايتان:
وأقاموا في منتهى هذا الجسر بنايتين عظيمتين كل منهما ذات دورين، واحدة إلى اليمين وواحدة إلى الشمال، وطولها 1500 متر، وعرضها 300 متر، يفصلهما طريق الإنفاليد الذي يوصل إلى طريق قبر نابوليون الأول، فالبناء القائم على الشمال عبارة عن معرض تام لجميع مصنوعات فرنسا ومعاملها، تجد فيه كل أداة تصنعها معامل الفرنسيس من المكانس إلى الجواهر، ومن الإبر إلى أخف الأطالس. وقد قسموا هذا البناء أقساما، ووضعوا فيه النمر ليسهل الاطلاع على محتوياته، وكتبوا اسم المعمل على كل سلعة أو صنعة حتى إذا أراد المرء أن يشتري شيئا من فرنسا قصد هذا المعرض، وعرف أين توجد أحسن معاملها. والبناء الثاني القائم على اليمين فيه مصنوعات الأجانب، قسم لكل أمة قسما، وأقام فيه العمال الساهرون يستقبلون القابلين باللطف ويشرحون. وأجمل ما في هذا المعرض خريطة فرنسا في القسم الروسي لما رأيتها كان حولها جمع متألب من المتفرجين يحدق ويعجب، وكانت أجزاء هذه الخارطة تسطع وتلمع فتفرح بمرآها القلوب، وقد صنعت كلها من نفيس الجواهر ترصيعا بديعا ما له في صناعة الناس نظير، خططت فيها الأقاليم وظهرت المدن بألوان الجواهر المختلفة، مثل باريس، وضعوا موضعها في الرسم ألماسة عظيمة تبهر النظر بأنوارها، ومرسيليا أشاروا إليها بحجر من الزمرد الأخضر، وروين بلؤلؤة، وليون بياقوتة، وقس على هذا ما جرى مجراه، فكانت هذه الخارطة هدية القيصر لحكومة فرنسا؛ تخليدا لذكر معرضها والصداقة الكائنة بين الأمتين، وهي أجمل الهدايا وأنفسها في العصر الحديث. وقد ورد في جريدة روسيا الرسمية أنهم أنفقوا على هذه التحفة الثمينة أربعة ملايين فرنك، وقضى الصياغ في صنعها ثلاث سنين، هذا في قسم روسيا. وأما الأقسام الأخرى فكانت مجموع محاسن تستحق الذكر، من ذلك القسم الأميركي فيه غرائب الاختراعات، وتميزه عن سواه مروحة كبيرة ميكانيكية تدفع الهواء الساكن فتصيره هبوبا شديدا كان الناس في حاجة إليه يومئذ والحر شديد، ورأيت فيه الآلات التي تصنع الحذاء في ثلث ساعة، فإذا أوصيت عليه وأنت واقف فصلوا الجلد بدقيقة واحدة وخاطوه بسبع دقائق، ووضعوه في القالب 7، وعملوا النعل في 6، وأتموا بقية اللوازم في 10، فمجموع ذلك 31 دقيقة. وهنالك قسم الصين يحار العقل مما فيه من صناعة العاج الدقيقة حتى كأن العظم في يد الصينيين حرير يوشونه ويطرزونه على أدق الأنواع، وفيه أيضا موكب إمبراطورة الصين بكل بهائه وزخرفه ممثل نقشا على العاج.
ولما انتهيت من هذه الأقسام صعدت الدور الأعلى من البناء، ولكن الصعود كان على طريقة تعد من ألطف غرائب الصناعة؛ ذلك أننا لم نرق سلما في الصعود، بل وقفنا على بساط عرضه متر واحد، وهو أبدا يدور ويلتف على أسطوانة تديرها الكهربائية ولا نهاية له فيما يرى الراءون، فإذا وقف المرء على هذا البساط العجيب وأمسك بيمناه حبلا من القطيفة يستعين به على الثبات جعل البساط السحري يلتف من نفسه تحت الأرجل، ويرفع الواقف عليه بسير رويدا حتى يوصله إلى الدور الأعلى، فكأنما هو بساط الريح الذي توهمته عقول الأولين فيما نشروا من الحكايات والأساطير. ولما بلغت الدور الأعلى رأيت جماهير الخلق محتشدة ما بين البنايتين، وعلمت أنهم ينتظرون قدوم جلالة شاه إيران متفرجا على المعرض، فنزلت ووقفت مع الواقفين، ورأيته حين أقبل مع بعض الكبراء، فإذا هو كما يمثله الرسم الشائع، ولكن الاصفرار ظاهر في عينيه، وقد خط الشيب عارضيه، فنزل من العربة وسار من ورائه حاكم إقليم السين، ورئيس المجلس البلدي وياور رئيس الجمهورية، ولم يرجع من حيث تمكن رؤيته؛ لأنه كان يؤثر التواري يومئذ بعد أن حاول أحد الفوضويين قتله في اليوم السابق.
قصور الممالك:
لم تكتف الأمم الأجنبية بما كان لها من الأقسام في البناء العمومي الذي سبق ذكره، ولكنها شيدت قصورا منيفة في شارع عظيم يمتد على ضفة السين سمي بشارع الممالك، وقد كانوا في بعض الأحيان ينظرون إلى بهاء منظر القصر من الخارج وزخارفه أكثر من نظرهم إلى ما فيه من المصنوعات، وكان قصر إيطاليا أجمل هذه القصور طرا، أنفقوا عليه أكثر مما أنفقت إنكلترا وأميركا على قصريهما، مع أنهما أشهر بكثرة النضار وسعة اليسار، حتى إن القصر الطلياني كلف عشرة ملايين فرنك، ولعل الداعي إلى هذا سياسي يدل على عود إيطاليا وفرنسا إلى المجاملة والصفاء بعد أن طال بينهما التنافر والجفاء، وهذه أسماء الممالك التي بنت قصورها على ضفة النهر في الشارع المذكور: إيطاليا - تركيا - أميركا - النمسا - المجر - إنكلترا - بلجيكا - النورويج - ألمانيا - إسبانيا - السويد. أما روسيا والهند والصين فبنت قصورها في شارع التروكاديرو.
قصر إيطاليا:
تأملت هذا القصر كثيرا قبل أن ولجته، وحدقت بما فيه من نقش دقيق ورسم أنيق، وما في بنائه من الحسن الظاهر للعيان، وقد بنوا هذا القصر دورين ونقشوا على واجهته رسوما وصورا اشتغل بها مهرة الصناع والمصورين، حتى إنها لو رسمت على القماش بدل تلك الجدران لكانت من أحسن ما تزدان به معارض الرسوم. ودخلت الدور الأول من هذا البناء الفاخر فإذا به متسع القاعات بهي الجوانب علقوا فيه المصابيح والثريات الكبرى من أجمل ما تصنع معامل الزجاج في البندقية، وهي ملونة ببهي الألوان، ووضعوا هنالك أنواعا شتى من صناعة البندقية المشهورة بمعامل الزجاج، نسقوها على مناضد طويلة، وهي مختارة من كل معمل أرسل إليها أجود ما عنده، فكانت مناظرها بهجة للعيون.
قصر تركيا:
بني هذا القصر ومن فوقه في الدور الأعلى منه ملهى أو تياترو، وقد أنفق على بناء الدورين مليون ومائة ألف فرنك، وله ردهة فسيحة تطل على نهر السين، ويرى الواقف فيها كثيرا من أبنية المعرض وأجزائه، وكان الازدحام كثيرا تجاه هذا القصر، ومنظره مع ما فيه يفكر المرء بالآستانة، ولا سيما منظر هذه الأبضعة المتراكمة من المنسوجات الحريرية يحيكونها بالأنوال في حمص وحماة ودمشق، ومن الأقمشة المطرزة بالقصب على النسق التركي المعروف، وطنافس نفيسة من صنع أزمير، ومن معمل هيريكة السلطاني في الآستانة، وكان فيه كثير من الأدوات التي تصنع في القدس، وهي مصنوعات شتى من الخشب ومن الصدف وعرق اللؤلؤ، وفيه أيضا أنواع جميلة من الحلي والمصاغ الذهبي والفضي على رسوم أكثرها شرقية تختلف اختلافا ظاهرا عن صياغة الفرنجة، فكان المتفرجون على هذه البدائع كثيرين، وفي جملة ما عرضوا هنالك الدخان الاستامبولي وبعض لوازمه من الأفمام والشبوقات، بعضها من الكهرمان والبعض من مواد أخرى. وأما الملهى الذي بنوه في الدور الأعلى من هذا القصر فكان فيه خليط من الممثلين والعمال من الأتراك والسوريين والأرمن وسواهم، يرقصون ويلعبون ألعابا شتى، ويغنون الأغاني الشرقية ويطربون. وقد كان العثمانيون والشرقيون عامة يجدون في القصر التركي شيئا تميل إليه النفوس، ولا وجود له في غير هذا الموضع من باريس، هو القهوة العربية على مثل ما تصنع في مصر والشام، فكان ذلك من حسنات القصر التركي.
قصر أميركا:
صفحة غير معروفة