ووكيل الرئيس قليلة خصائصه، ولكنه ينتخب مثل الرئيس لأربع سنوات، وهو يرأس جلسات مجلس الشيوخ الذي سيأتي ذكره، وإذا مات أو قضت عليه علة بالانسحاب لم ينتخب سواه للرئاسة، بل قام الوكيل بأعماله إلى آخر المدة.
وإني بناء على دعوة الرئيس غرانت وقرينته تركت فلادلفيا في قطار مر على ضفة سكونكيل ودلوار، وهما النهران المحدقان بالمدينة، واخترق بعد ذلك سهولا فسيحة فوصل واشنطن بعد ست ساعات، وذهبت من المحطة توا إلى فندق فبت ليلتي وقمت في الصباح التالي في عربة إلى قصر رئيس الجمهورية، فبعد سير قليل وقف الحوذي وقال لي إن هذا هو «البيت الأبيض» فأخذني العجب؛ لأني لم أر شيئا من أدلة الرئاسة والملك حول ذلك البيت، فلا حراس يخطرون ولا جنود يقيمون ولا رجال بملابس الأبهة والزخارف يظهرون، وفي ذلك مخالفة لكل الممالك الأوروبية، فنزلت من العربة وقرعت الجرس عملا بإشارة الحوذي، فظهر لي خادم فتح الباب، وقال من تريد، فأعطيته اسمي على بطاقة الزيارة، وسألني أتريد مقابلة الرئيس نفسه أم قرينته أم صهره المستر سارتوريوس وجميعهم خرجوا من المنزل، قلت إذا قدم ورقتي هذه إلى جناب الرئيس بنفسه وانصرفت وقد أذهلني بساطة الحاكم على دولة من أقوى دول الأرض، وعجبت لقوة النظام الذي يسود بلا جنود، والحرية التي تساوي رئيس الأمة الكبرى بأحقر أفرادها، وعدت إلى الفندق فأتاني في اليوم التالي مديره وبيده بطاقة الزيارة باسم الجنرال غرانت رئيس الجمهورية، وعليها دعوة للعشاء في الغد عند الساعة السابعة مساء، وعلمت أن أحد المعاونين في القصر الأبيض أحضر إلي تلك البطاقة، فذهبت إلى البيت الأبيض في الساعة المذكورة، وأدخلني الخادم إلى قاعة جميلة ما لبثت فيها قليلا حتى جاءتها زوجة الرئيس، ثم حضر هو ومعه الجنرال شريدن وزير الحرب، وهو من أبطال الحرب الأميركية الأهلية أيضا، وذهبت معهم إلى قاعة الطعام فوجدنا ابنة الرئيس وصهره، وجلسنا جميعا على المائدة، وتناولنا العشاء ونحن نتحدث عن أمور كثيرة، أهمها عن مصر ومشاهدها وأحوالها، ولم أر في هذا القصر شيئا يوجب الذكر غير أنه في فرشه وأدواته ونظامه ومنظره لا يختلف عن بيوت الأكابر من الأميركان ، وكثيرون من أصحاب الملايين لهم قصور أعظم من هذا القصر وأفخم، أنفقوا على زخرفها وإتقانها أضعاف الذي أنفق على بيت رئيس الجمهورية. ولطالما رأيت هذا الرئيس العظيم مدة إقامتي في واشنطن نازلا من بيته الأبيض أو في الشوارع المعروفة يتمشى وحده مثل بقية الناس، ويداه من وراء ظهره حسب العادة التي اشتهرت عنه.
وأما مشاهد هذه المدينة غير البيت الأبيض الذي يقيم فيه رئيس الجمهورية، فأهمها الكابتول، وهو دار الندوة الأميركية حيث يجتمع نواب الأمة وشيوخها للبحث في مهام الدولة وما يلزم لها من النظامات والشئون، ومعلوم أن حكومة هذه الجمهورية مثل غيرها من الحكومات الدستورية لها رئيس هو الذي تقدم ذكره، ومجلسان، أحدهما مجلس الشيوخ يرأسه وكيل رئيس الجمهورية كما تقدم وأعضاؤه 88 كبيرا يندبون من كل ولاية اثنين، وعدد الولايات المتحدة الآن 44 ولاية، وتنحصر أعمال هذا المجلس في التصديق على مشروعات النواب، ولكن لهم سلطة كبرى ليست لغيرهم من أعضاء المجالس العليا في أوروبا، فإنهم يعدون المجلس الأعلى في الجمهورية يحاكم أمامه رئيس الجمهورية والوزراء إذا ارتكبوا في وظائفهم ما يوجب هذه المحاكمة، ولهم حق المعارضة للرئيس إذا انتخب للمناصب العليا غير الذين يليقون لها، وفوق هذا فإن لهذا المجلس حق التصديق على المعاهدات أو المحالفات التي يبرمها الرئيس والوزراء مع الدول الأخرى، فهم بهذا لهم سلطة فوق كل سلطة في الولايات المتحدة، وكبراء الأميركان يتسابقون إلى إحراز العضوية فيه ويدفعون الأموال الطائلة لنيل هذا الشرف، فترى أكثر الشيوخ الحاليين من الأغنياء وأصحاب الملايين، ولكل عضو من أعضاء مجلس الشيوخ هذا - أو السناتو كما يسمونه - خمسة آلاف ريال في السنة أو ألف جنيه، وهم ينتخبون لمدة ست سنوات يجوز إعادة انتخابهم من بعدها، وفي كل سنة يتغير ثلثهم ويبقى الثلثان إلى أن تنتهي السنوات الست فيتغير الكل أو يعاد انتخابهم، وهم يجتمعون في قاعة كبرى من قاعات الكابتول التي نحن في شأنها، ولكل منهم مقعد خاص به أمامه منضدة صغيرة ودرج لكتابة المذكرات وحفظ الأوراق، وفي ناديهم أماكن كثيرة للزائرين على اختلاف أنواعهم ولمكاتبي الجرائد، فهم في هذا مثل بقية المجالس النيابية في كل الممالك الدستورية.
وفي الكابتول أيضا قاعة كبرى لمجلس النواب، وهم الآن 356 نائبا ينتخبون كل أربع سنوات مع رئيس الجمهورية، وينتقون من أعضاء المجالس النيابية في كل ولاية، فليس يخفى أن الولايات المتحدة مجموع ولايات مستقلة تمام الاستقلال في أمورها الداخلية، ولكل منها نظام يوجده رجالها وحاكم ووكيل الحاكم وأحكام وقوانين خاصة بها ومجلسان لسن القوانين. وبقية ما يقال عن مجلس النواب، مثل الذي قيل عن مجلس الشيوخ واسم المجلسين عند الأميركان «كونجرس»، كما أن اسم مجلسي النواب والشيوخ عند الفرنسويين والإنكليز «بارلمنت».
وفي قصر الكابتول غير هذه القاعات أماكن أخرى لا محل لذكرها هنا. والكابتول بناء بديع أسس على أكمة قائمة بنفسها مرتفعة حوالي 90 قدما، وطول هذا البناء 751 قدما، وعرضه 324 وعلو قبته 288 قدما، في رأسه تمثال الحرية، وتعد هذه الدار من أعظم أبنية المتمدنين، فإنه أنفق عليها نحو ثلاثة ملايين ومائتي ألف جنيه، ولها ثلاثة مداخل كبرى، فالذي يدخلها من الباب الأوسط يرى في صدر البناء تمثال كولومبوس مكتشف أميركا وإلى يمينه من الداخل تمثال الاستقلال الأميركي، وعند الباب الشمالي تمثال يشير إلى تنصيب واشنطن على رئاسة الولايات المتحدة وتماثيل أخرى تمثل وصول كولومبوس إلى هذه القارة سنة 1492، والتوقيع على قرار الاستقلال سنة 1776، وتسليم كورنوالس القائد الإنكليزي سنة 1781، ورسم الولايات الأصلية وعددها 13، وغير هذا مما يوضح تاريخ أميركا وتقدمها من سنة الاكتشاف إلى سنة المعرض الذي كنا في شأنه.
هذا كله تجده في بناء الكابتول العظيم، ولا بد قبل الانتقال منه أن نخبر القارئ أن حكام الولايات المتحدة ورئيس جمهوريتها والنواب والشيوخ وكل الذين يجتمعون في هذا المحل وذكرنا أسماءهم، ينتمون إلى أحد الحزبين العظيمين في البلاد، وهما حزب «الربوبليكنس» أو الجمهوريين، وحزب «الدموقراطس» أو العاميين. وكل من له دخل في سياسة الولايات المتحدة لا بد أن يكون تابعا لأحد هذين الحزبين، ولكن الأكثرية لحزب الجمهوريين من زمان طويل وأكثر رؤساء الجمهورية الذين انتخبوا من بعد الحرب الأهلية منه، ما خلا المستر كليفلاند رئيس الجمهورية السابق فإنه زعيم الحزب الديموقراطي، فما دام الحزب الجمهوري له الأكثرية في البلاد فالرئيس يكون منه وكذلك السفراء والقناصل؛ لأن حكومة الولايات المتحدة جرت على عادة تختلف عن عادة الممالك الأوروبية في ترقية سفرائها ونقلهم؛ فإن الرئيس هو الذي يعين هؤلاء القناصل والسفراء في مراكزهم، فإذا انتهت مدته وجاء رئيس جديد تغير أكثرهم وجاء بدلهم أصدقاء الرئيس الجديد. وفي هذا ما لا يخفى من تسليم المناصب السياسية إلى الذين لم يتمرنوا على أعمالها.
ويلي الكابتول في الأهمية المكتبة العمومية، ولها بناء عظيم تظنه قصرا منيفا، طوله 470 قدما وعرضه 365، وقد أنفقوا عليها مليون ومائتي ألف جنيه، وفيها أربعة ملايين مجلد يجوز لمن شاء أن يطالع الذي يريده فيها، وهم كل سنة يزيدون عدد الكتب حبا في ترقية شأن العلم وإفادة الجمهور.
ودار التحف وفيها من الأواني الصينية الغريبة صنعت في الهند والصين واليابان، وفرنسا شيء كثير، وفيها قسم للصور من ضمن رسومه ستمائة رسم أو تزيد تمثل هيئة الهنود ومشايخهم وطرائق معيشتهم، ونريد بالهنود هنا أهل أميركا الأصليين، وهم جنس منفرد عن غيره من أجناس البشر عرفوا بطول القامة ودقة الأنف وحدة النظر واللون النحاسي المميز لهم عن سواهم، وقد كانوا كثارا في أول الأمر، ولهم اطلاع واسع على بعض العلوم ولا سيما الفلكية منها، وآثارهم في بلاد المكسيك وما يليها إلى الجنوب تشهد بتقدمهم في العصور الخالية، ولكنهم أصحاب خديعة ومكر وحيلة ينفر الأوروبيون الذين عمروا أميركا منهم، وقد حدثت بين الفريقين حروب كثيرة كادت تفضي إلى انقراض هؤلاء السكان الأصليين. وفي الولايات المتحدة نحو نصف مليون منهم الآن في الولايات القاصية، وهم بلا صوت في إدارة البلاد ولا شأن ولا نفوذ، وأكثر أهل الولايات المتحدة يكرهونهم كرها شديدا، وإذا سجن أحدهم لجناية تعمدوا أذيته ولم يصبروا عليه إلى حين صدور الحكم القانوني. وقد اشتهر هؤلاء الهنود بالفتك الذريع بالفتيات الأميركيات، وأهاجوا سخط الأميركان عليهم بسبب هذه الخلة، فصار القوم الآن كلما سجن أثيم لمثل هذه التهمة يتنكر بعضهم ويهجمون على السجن ليلا، فيستاقون الهندي الأثيم ويشنقونه بأمر أنفسهم بدل أمر العدل، وهذه عادة غريبة قاصرة على تلك الولايات المتحدة لا يأتونها إلا مع الهنود، ولا سيما إذا كانت جريمتهم من نوع تعذيب البنات، وتعرف هذه العادة الأميركية باسم «لينتش»، وهي من أغرب ما يروى عن الأميركيين.
ويلي هذا المتحف في الأهمية بناء عظيم للمتقاعدين أو هم أرباب المعاشات، فيه قاعات فسيحة تعقد داخلها بعض الجمعيات الحافلة، ويمكن أن تضم عشرين ألفا من السامعين.
وقصر الاختراعات، وهو من أعظم الأبنية الأنيقة، خص بإدارة الاجتماعات وحصرها في المخترعين، وفيها الدلالة الكافية على اتساع نطاق الاختراع والسعي المفيد في بلاد الولايات المتحدة؛ فإن عدد الطلبات المسجلة في هذه الإدارة لا يقل عن ألوف الألوف، وفيها نموذج من كل اختراع يقدمه الذين يطلبون أن تحصر منفعة الاختراع فيهم، فلا يقل عددها عن نصف مليون مثال متقن الصنع، وقانون الاحتكار والاختراع في الولايات المتحدة كثير المواد، ولكنه يفي بمراد المخترعين أكثر من قوانين إنكلترا وفرنسا وغيرها، وأهم مواده أن المخترع يحق له أن يحتكر بيع الصنف الذي يخترعه أو بعضه إلى مدة معلومة لا تقل عن عشر سنين، وفي بعض الأحوال خمس عشرة سنة، لقاء رسوم لا تذكر يدفعها إلى خزانة الدولة أقساطا، فلا عجب إذا نمت الصناعة وكثر الاختراع في ظل دولة هذا نظامها.
صفحة غير معروفة