والشاب الذي يحس هذه القيم يحس أيضا كرامة شخصية ترفعه عن الدنيا، وتحمله على أن يلتزم الفضائل السامية، وعندئذ تستحيل هذه الخدمة الإيثارية خدمة ذاتية، أي إن الشاب ينفع نفسه حين ينفع غيره؛ ذلك أننا نرتفع ونعظم حين نأخذ بالدفاع والعمل في شأن اجتماعي عظيم.
إن هناك كثيرين ممن لم يفكروا أو لم يتعمقوا شئون هذه الدنيا، وهم يحسبون أن السعادة بالملذات والشهوات، ولكن الحقيقة أننا لا نطلب هذه السعادة، إذ هي في صميمها حيوانية، لأن سعادة الرجل الناضج هي كفاح إنساني يغمر شخصيته ويبعثه على النشاط ويربطه بالمجتمع ويجعله يحس بأنه عضو نافع.
وهناك أنواع كثيرة من هذا الكفاح فإن الشاب الذي يدرس علما أو فنا هو مكافح، وكذلك الذي يدرس السياسة وينتهي إلى برنامج للإصلاح هو أيضا مكافح، وكلا هذين يجد أن العمر قصير في هذا الكفاح؛ ولذلك لا يمكن أحدهما أن يسأم أو ينحرف أو أن يسقط.
ولكن هناك أيضا ميادين أصغر؛ فإن الانتماء إلى جمعية خيرية لتربية اليتامى أو مساعدة الأرامل أو تعليم العميان يملأ القلب كرامة والعقل تفكيرا ويكبر الشخصية.
إن الواقع أن الإنسان أكبر من ذاته، أو هو لا يكبر إلا إذ تجاوز ذاته ونزع من الأثرة إلى الإيثار؛ أي خرج من نطاق الأنانية الفردية إلى نطاق الغيرة الاجتماعية.
وهذا هو الذي يجعلنا نعجب بالفدائيين، ونعجب بالشجاعة والشهامة، لأن هاتين الفصيلتين تعنيان الإقدام والتضحية بالذات في سبيل غير اللذات، أي تعنيان الإيثار.
وليست الأمومة في جمالها سوى هذا الإيثار الذي يشع منها حين تجوع الأم كي تشبع طفلها، وليس الحب في روعته سوى هذا الإيثار الذي يؤثر به كل من المحبين الآخر، وليست الجندية سوى إيثار الشعب - شعبنا الذي ننتمي إليه والذي هو أسرتنا الكبرى - على أشخاصنا، ولن نحس السعادة الداخلية العميقة إلا حين نؤثر على أنفسنا.
الفصل العاشر
أسوأ من الموت
أسوأ من الموت بعد انتهاء الحياة هو الموت قبل انتهائها، ونحن نموت جملة مرات دون أن ندري.
صفحة غير معروفة