ويشتبك شبيب - ومعه ثلاثون شخصا - مع جيش كبير جدا فيصمد صمود الأبطال حتى يضطر قائد الجيش إلى أن يقول: «لو كان هؤلاء الخوارج يزيدون على مائة رجل لأهلكونا.» •••
وقد رأى القارئ كيف كان اسم شبيب وحده كافيا في ذعر الجيش الكثير العدد، وكيف كان عتاب بن ورقاء يحمس جيشه ويستنفرهم لمهاجمة شبيب، ويبذل جهده في إلهاب قلوبهم، فلا يصل إلى ذلك، ولا يرى أمامه إلا خورا أو هلعا من لقاء شبيب.
ينادي: أين القصاص، فلا يجيبه أحد، وينادي: أين من يروي شعر عنترة؟ «فلا والله ما يرد عليه إنسان كلمة.» فيعلم عتاب أنهم خاذلوه ويفت ذلك في عضده وهو البطل الكمي العظيم الخطر. •••
ومن الأمثلة الدالة على حزم شبيب تظاهره بالزهد في المال؛ خوفا على الجند أن يفتتنوا به فيعوقهم ذلك عن الاستماتة في الجهاد.
قالوا: إن شبيب حين وجه من يأتيه برأس عامل «سورا» جاءوا برأسه فقال لهم شبيب: «ماذا أتيتمونا به؟»
فقالوا: «جئناك برأس الفاسق وما وجدنا من مال.» والمال على دابة في بدوره، فقال شبيب: «أتيتمونا بفتنة المسلمين! هلم الحربة يا غلام فخرق بها البدر.»
قالوا: وأمر فنخس بالدابة والمال يتناثر من بدوره حتى وردت «الصراة».
فقال: «إن كان بقي شيء فاقذفه في الماء.»
لقد خشي شبيب أن يشتغل أصحابه بالمال فيفتنوا به وينسوا واجبهم الأول الذي يستميتون في سبيل تحقيقه.
وقد أذاع العامة كثيرا من المزاعم التي لا تخفى دلالتها على تهيبهم له وإكبارهم لشجاعته الخارقة إكبارا جعلهم يفتتنون في نسبه المعجزات إليه. والعامة لا يكادون يتمثلون المزايا المعنوية إلا في قالب مادي ملموس. لذلك راحوا يروجون أن شبيبا حين أخرج من الماء وشق بطنه وأخرج قلبه وجدوه مجتمعا صلبا كأنه صخرة، وأنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة إنسان؛ لأن العامة لم يستطيعوا أن يتصوروا مثل هذه الشجاعة الخارقة التي امتاز بها شبيب في قلب كقلب الأناسي.
صفحة غير معروفة