فقام إليها الحسين، فصب على وجهها الماء، وقال لها: «يا أخية، اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته ويبعث الخلق فيعودون - وهو فرد وحده - أبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة.»
وعزاها بهذا الكلام ونحوه وقال لها: «يا أخية، إني أقسم عليك فأبري قسمي: لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت.»
قال: «ثم جاء بها حتى أجلسها عندي وخرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض وأن يكونوا هم إلى الوجه الذي يأتيه منه عدوهم.» (8) يوم المصرع
وأمر الحسين أصحابه أن يلقوا بالحطب والقصب في خنادق كانوا حفروها خلف خيامهم لتحميهم من العدو حتى لا يباغتهم من ورائهم، ففعلوا.
ومن عجائب المقادير أن يمر بهم شمر بن ذي الجوشن فيرى النار تضطرم فينادي بأعلى صوته: «يا حسين، استعجلت النار في الدنيا قبل القيامة؟»
ويقول «مسلم بن عوسجة» للحسين: «يا ابن رسول الله جعلت فداك، ألا أرميه بسهم فإنه قد أمكنني.»
فيقول له الحسين: «لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم.»
وفي هذا دليل على ميل الحسين إلى المسالمة حتى في آخر ساعة من ساعاته الحرجة، وكأنما أراد أن يمعنوا في بغيهم إلى آخر لحظة، وأبي على نفسه أن يكون البادئ بالقتال فضيع بذلك فرصة نادرة بقتل هذا الشرير الخطر، كما أضاع من قبلها كثيرا من الفرص.
ودارت بينه وبين الأعداء مناقشات طويلة فياضة بالبلاغة وقوة الحجة، ولكن قلوب أعدائه قدت من صخر فلم يأبهوا لما يقول.
وقد تأثر بقوله الحر بن يزيد وانضم إليه - بعد تردد - حين رأى الحيف قد بلغ أقصاه.
صفحة غير معروفة