مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام
الجزء الأول
تأليف
الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي
جميع الحقوق محفوظة لفريق مساحة حرة
[![](../Images/logo4.png)](http://www.masaha.org)
<http://www.masaha.org>
[المقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق نبذة من أحوال الشهيد وترجمته
قلما يجود الزمان بشخصيات كشيخنا الشهيد- (قدس الله روحه)- جامعة لمختلف الفضائل والكمالات الإنسانية. وقلما يجد الباحث بين العلماء والسلف الصالح من يكون له هذا النصيب الوافر من التوفيقات الربانية. وحقا ان الإنسان عند ما يقرأ في التاريخ أحوال الشهيد وأمثاله- وعز له المثيل- ليجد في نفسه حقارة وصغارا، ويتخاذل عن الترفع لبلوغ هذه القمة، وفي نفس الوقت، يشعر بالعزة والكرامة، وتطمئن نفسه إذا كان مهتديا بهديهم وسالكا سبيلهم.
والبحث عن أحوال هؤلاء العظماء، ينبغي بل يجب، لا للشكر والثناء على ما أسدوه على المجتمع البشري والدين ورجاله والعلم وذويه من نعم سابغة وأياد محمودة فحسب، بل ليستضيء السالك المتعلم على سبيل الرشاد في سبيله الخطير وطريقه المظلم، بأنوار هداياتهم ويستعبر بما خلفوه من عبر، ويتبع ما تركوه من أثر ويجعل نصب عينيه ما نصبوه من أمثولة.
وان شيخنا الشهيد السعيد لمن أروع المثل في السلف الصالح الذي ينبغي أن يقتفي أثره ويتأسى به. ولئن كان التمثل والتشبه بالأئمة المعصومين (عليهم السلام) تماما وكمالا كالمستحيل علينا، فإن التمثل بأمثال الشهيد،
صفحة ٩
صعب جدا لا يستطيع أن يدعيه الا من شملته العناية الإلهية.
ومن هنا نستطيع أن نستخلص أن الهدف الاسمي من ترجمة العلماء الأبرار من أمثال شيخنا المترجم له، انما هو التخلق بأخلاقهم واتباع آثارهم بقدر الإمكان. اذن فلا يهمنا من البحث، الجوانب التاريخية المحضة التي لا تؤثر في هذه المهمة كالبحث عن أن اسمه «زين الدين» وأن أباه «علي» أم أن «زين الدين» لقبه واسمه «علي» كما توهم والصحيح هو الأول، أو البحث عن وجه تسميته ب«ابن الحاجة» وانه اسمه أو اسم أبيه أو جده، وانه بتشديد الجيم أو بتخفيفه أو أن الصحيح «ابن الحجة» بضم الحاء أو بفتحه وتشديد الجيم مخفف الحاجة وأمثال ذلك مما تعرض له بعض المترجمين له، وكذلك البحث عن وجه تسميته بالنحاريري والطلوسي وغير ذلك مما ذكروه، فلا نتعرض لأمثال ذلك الا بنحو الإشارة في بعض الموارد.
اسمه ونسبه
هو: زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد بن جمال الدين بن تقي الدين صالح بن مشرف العاملي. هكذا ورد في رسالة ابن العودي (1)، وهو تلميذه وأقرب الناس اليه، وكذا ورد في إجازته- (قدس سره)- للشيخ حسين عبد الصمد- والد شيخنا البهائي- على ما ورد في البحار (2)، الا أن فيها بدل «مشرف»، «مشرف». ولكن الوارد في كثير من الكتب «مشرف» فيقوى احتمال التصحيف في البحار.
وذكر في آخر الإجازة (3): «وكتب هذه الأحرف بيده الفانية زين الدين بن علي بن أحمد شهر بابن الحاجة.» وأعقبه العلامة المجلسي- (رحمه الله)-
صفحة ١٠
بقوله: «أقول: قد نقلتها من خط نقل من خطه (قدس الله روحه).» ولكن ورد في النسب إضافات في أمل الآمل (1) وزاد عليه في أعيان الشيعة (2) وكذا في روضات الجنات (3).
سجاياه وشمائله
من حسن الحظ أن ترجم له تلميذه الفاضل الشيخ محمد بن علي بن الحسن العودي الجزيني في رسالة مستقلة سماها «بغية المريد في الكشف عن أحوال الشهيد» ولكنه مع الأسف ذهب فيما ذهب من الكتب ولم يبق منه الا ما وقع في يد العالم الفاضل حفيد شيخنا الشهيد: علي بن محمد بن الحسن بن زين الدين «الشهيد الثاني» فأودعه في كتابه «الدر المنثور».
وقد ذكر ابن العودي في سجايا الشهيد وخصائله الكريمة ما خلاصته:
«انه لم يصرف لحظة من عمره الا في اكتساب فضيلة، ووزع أوقاته على ما يعود نفعه في اليوم والليلة. أما النهار ففي تدريس ومطالعة وتصنيف ومراجعة، وأما الليل فله فيه استعداد كامل لتحصيل ما يبتغيه من الفضائل.
هذا مع غاية اجتهاده في التوجه إلى مولاه وقيامه بأوراد العبادة، حتى يكل قدماه، وهو مع ذلك قائم بالنظر في أحوال معيشته على أحسن نظام، وقضاء حوائج المحتاجين بأتم قيام. ان رآه الناظر على أسلوب ظن أنه ما تعاطى سواه ولم يعلم أنه بلغ من كل فن منتهاه.
ولقد كان مع علو رتبته وسمو منزلته، على غاية من التواضع ولين الجانب. إذا اجتمع بالأصحاب، عد نفسه كواحد منهم. ولقد شاهدت منه سنة ورودي إلى خدمته أنه كان ينقل الحطب على حمار في الليل
صفحة ١١
لعياله، ويصلي الصبح في المسجد ويشتغل بالتدريس بقية نهاره، فلما شعرت منه بذلك، كنت أذهب معه بغير اختياره وكنت أستفيد من فضائله وأرى من حسن شمائله ما يحملني على حب ملازمته وعدم مفارقته. وكان يصلي العشاء جماعة ويذهب لحفظ الكرم، ويصلي الصبح في المسجد ويجلس للتدريس والبحث.
وكان شيخنا يتعاطى جميع مهماته بقلبه وبدنه. حتى انه ما كان يعجبه تدبير أحد في أموره. ومع ذلك كله فقد كان غالب الزمان في الخوف الموجب لإتلاف النفس والتستر والاختفاء الذي لا يسع الإنسان معه أن يفكر في مسألة من الضروريات البديهية. وسيأتي في عدة تصانيفه ما ظهر عنه في زمن الخوف من غزارة العلوم المشبهة بنفائس الجوهر المنظوم.
وأما شكله فقد كان ربعة من الرجال في القامة، معتدل الهامة، وفي آخر أمره كان الى السمن أميل، بوجه صبيح مدور وشعر سبط يميل إلى الشقرة، أسود العينين والحاجبين، له خال على أحد خديه وآخر على أحد جبينه، أبيض اللون، لطيف الجسم، عبل الذراعين والساقين، كأن أصابع يديه أقلام فضة، إذا نظر الناظر في وجهه وسمع عذوبة لفظه، لم تسمح نفسه بمفارقته وتسلى عن كل شيء بمخاطبته، تمتلئ العيون من مهابته وتبتهج القلوب لجلالته. وايم الله انه لفوق ما وصفت وقد اشتمل من حميد الخصال على أكثر مما ذكرت (1).
الشهيد يترجم نفسه
نقل ابن العودي في رسالته هذه، الترجمة عن خط الشهيد- (قدس الله نفسه)-، وفيه من تاريخ ولادته وحياته وأسفاره وجولاته العلمية وسعة ثقافته
صفحة ١٢
وأسماء أساتذته من العامة والخاصة وشؤون اخرى من حياته المليئة بالعبر والكرامات ما يغنينا عن نقل غيره. فرأينا أن ننقله هنا تماما لمزيد الفائدة.
قال (قدس سره):
«هذه جملة من أحوالي وتصرف الزمان بي في عمري وتاريخ بعض المهمات التي اتفقت لي».
كان مولدي في يوم الثلاثاء، ثالث عشر شوال سنة إحدى عشرة وتسعمائة (911) من الهجرة النبوية، ولا أحفظ مبدأ اشتغالي بالتعلم، لكن كان ختمي لكتاب الله العزيز سنة عشرين وتسعمائة (920) من الهجرة النبوية وسني إذ ذاك تسع سنين، واشتغلت بعده بقراءة الفنون العربية والفقه على الوالد- (قدس الله سره)-، الى أن توفي في العشر الأوسط من شهر رجب يوم الخميس سنة خمس وعشرين وتسعمائة (925) وكان من جملة ما قرأته عليه من كتب الفقه «النافع مختصر الشرائع» و«اللمعة الدمشقية».
ثم ارتحلت في تلك السنة مهاجرا في طلب العلم الى «مبس»، وكان ابتداء الانتقال في شهر شوال من السنة المذكورة، واشتغلت على شيخنا الجليل الشيخ علي بن عبد العالي- (قدس الله سره)- من تلك السنة إلى أواخر سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة (933) وكان من جملة ما قرأته عليه: «شرائع الإسلام» و«الإرشاد» وأكثر «القواعد».
ثم ارتحلت في شهر ذي الحجة إلى «كرك نوح» (عليه السلام) وقرأت بها على المرحوم المقدس السيد حسن بن السيد جعفر، جملة من الفنون، وكان مما قرأته عليه «قواعد ابن ميثم البحراني» في الكلام و«التهذيب» في أصول الفقه و«العمدة الجليلة في الأصول الفقهية» من مصنفات السيد المذكور و«الكافية» في النحو، وسمعت جملة من الفقه وغيره من الفنون.
ثم انتقلت إلى «جبع» وطني الأول زمن الوالد في شهر جمادي الآخرة سنة أربع وثلاثين (934)، وأقمت بها مشتغلا بمطالعة العلم والمذاكرة إلى سنة
صفحة ١٣
(937).
ثم ارتحلت إلى «دمشق» واشتغلت بها على الشيخ الفاضل المحقق الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكي، فقرأت عليه من كتب الطب، شرح الموجز التفليسي و«غاية القصد في معرفة الفصد» من مصنفات الشيخ المبرور المذكور، و«فصول الفرغاني» في الهيئة وبعض «حكمة الإشراق» للسهروردي، وقرأت في تلك المدة بها على المرحوم الشيخ احمد بن جابر «الشاطبية» في علم القراءات، وقرأت عليه القرآن بقراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم.
ثم رجعت الى «جبع» سنة (938) وبها توفي شيخنا الشيخ شمس الدين المذكور وشيخنا المتقدم الأعلى الشيخ علي في شهر واحد وهو شهر جمادى الاولى، وكانت وفاة شيخنا السيد حسن، سادس شهر رمضان سنة (93)، وأقمت بالبلدة المذكورة إلى تمام سنة (941).
ورحلت إلى مصر في أول سنة (942) لتحصيل ما أمكن من العلوم، واجتمعت في تلك السفرة بجماعة كثيرة من الأفاضل، فأول اجتماعي بالشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي الحنفي، وقرأت عليه جملة من الصحيحين وأجازني روايتهما مع ما يجوز له روايته في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة.
وكان وصولي إلى مصر يوم الجمعة منتصف شهر ربيع الآخر من السنة المتقدمة، واشتغلت بها على جماعة، منهم:
- الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي: قرأت عليه «منهاج النووي» في الفقه وأكثر «مختصر الأصول» لابن الحاجب وشرح العضدي مع مطالعة حواشيه منها السعدية والشريفية. وسمعت عليه كتبا كثيرة في الفنون العربية والعقلية وغيرهما، فمنها شرح التلخيص المختصر في المعاني والبيان لملا سعد الدين، ومنها شرح تصريف العربي ومنها شرح الشيخ المذكور لورقات امام الحرمين الجويني في أصول الفقه وتوضيح ابن هشام في النحو وغير ذلك مما
صفحة ١٤
يطول ذكره. وأجازني اجازة عامة بما يجوز له روايته، سنة (943).
- ومنهم الملا حسين الجرجاني: قرأنا عليه جملة من «شرح التجريد» للملا علي القوشجي مع حاشية ملا جلال الدين الدواني و«شرح أشكال التأسيس» في الهندسة لقاضي زاده الرومي و«شرح الجغميني» في الهيئة له.
- ومنهم الملا محمد الأسترابادي: قرأنا عليه جملة من «المطول» مع حاشية السيد الشريف و«الجامي» شرح الكافية.
- ومنهم الملا محمد الكيلاني: سمعنا عليه جملة من المعاني والمنطق.
- ومنهم الشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبلي: قرأت عليه جميع «شرح الشافية» للجاربردي وجميع «شرح الخزرجية» في العروض والقوافي للشيخ زكريا الأنصاري وسمعت عليه كتبا كثيرة في الفنون والحديث منها: الصحيحان، وأجازني جميع ما قرأت وسمعت وما يجوز له روايته في السنة المذكورة.
- ومنهم الشيخ أبو الحسن البكري: سمعت عليه جملة من الكتب في الفقه والتفسير وبعض شرحه على المنهاج.
- ومنهم الشيخ زين الدين الحري المالكي: قرأت عليه «ألفية ابن مالك».
- ومنهم الشيخ المحقق ناصر الدين اللقاني المالكي، محقق الوقت وفاضل تلك البلدة. لم أر بالديار المصرية أفضل منه في العلوم العقلية والعربية. سمعت عليه «البيضاوي» في التفسير وغيره من الفنون.
- ومنهم الشيخ ناصر الدين الطلاوي الشافعي: قرأت عليه القرآن بقراءة أبي عمرو ورسالة في القراءات من تأليفه.
- ومنهم الشيخ شمس الدين محمد أبي النجا النحاس (1) قرأت عليه «الشاطبية» في القراءات والقرآن العزيز للأئمة السبعة، وشرعت ثانيا أقرأ عليه
صفحة ١٥
للعشرة ولم أكمل الختم بها.
- ومنهم الشيخ الفاضل الكامل عبد الحميد السمهودي قرأت عليه جملة صالحة من الفنون، وأجازني إجازة عامة.
- ومنهم الشيخ شمس الدين محمد بن عبد القادر الفرضي الشافعي:
قرأت عليه كتبا كثيرة في الحساب الهوائي، و«المرشدة» في حساب الهندر الغباري، و«الياسمينية» وشرحها في علم الجبر والمقابلة. و«شرح المقنع» في علم الجبر والمقابلة. وسمعت عليه بعض شرح «الوسيلة». وأجازني اجازة عامة.
وسمعت بالبلد المذكور من جملة متكثرة من المشايخ يطول الخطب بتفصيلهم، ومنهم الشيخ عميرة، الشيخ شهاب الدين بن عبد الحق والشيخ شهاب الدين البلقيني والشيخ شمس الدين الديروطي وغيرهم.
ثم ارتحلت من مصر الى الحجاز الشريف سابع عشر شهر شوال سنة (943) ورجعت إلى وطني الأول بعد قضاء الواجب من الحج والعمرة والتمتع بزيارة النبي وآله وأصحابه (صلوات الله عليهم). ووصلت رابع عشر شهر صفر سنة (944)، وأقمت بها إلى سنة ست وأربعين (946).
وسافرت إلى العراق لزيارة الأئمة (عليهم السلام) وكان خروجي سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة (946) ورجوعي خامس عشر شهر شعبان منها.
وسافرت لزيارة بيت المقدس، منتصف ذي الحجة سنة (948)، واجتمعت في تلك السفرة بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسي، وقرأت عليه بعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم وأجازني إجازة عامة. ثم رجعت إلى الوطن الأول المتقدم وأقمت به إلى أواخر سنة احدى وخمسين (951) مشتغلا بمطالعة العلم ومذاكرته مستفرغا وسعي في ذلك.
ثم برزت إلى الأوامر الإلهية والإشارات الربانية بالسفر إلى جهة الروم والاجتماع بمن فيها من أهل الفضائل والعلوم والمتعلق بسلطان الوقت والزمان، السلطان سليمان بن عثمان، وكان ذلك على خلاف مقتضى الطبع
صفحة ١٦
وسياق الفهم، لكن ما قدر، لا تصل إليه الفكرة الكلية والمعرفة القليلة من أسرار الحقائق وأحوال العواقب. والكيس الماهر هو المستسلم في قبضة العالم الخبير القاهر، الممتثل لأوامره الشريفة، المنقاد إلى طاعته المنيفة، كيف لا وانما يأمر بمصلحة تعود على المأمور مع اطلاعه على دقائق عواقب الأمور وهو الجواد المطلق والرحيم المحقق. والحمد لله على انعامه وإحسانه وامتنانه، والحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ولا يهمل من غفل عنه ولا يؤاخذ من صدف عن طاعته بل يقوده إلى مصلحته ويوصله إلى بغيته.
وكان الخروج إلى السفر المذكور- بعد بوادر الأوامر به والنواهي عن تركه والتخلف عنه وتأخيره إلى وقت آخر- ثاني عشر شهر ذي الحجة الحرام سنة (951)، وأقمت بمدينة «دمشق» بقية الشهر، ثم ارتحلت إلى «حلب» ووصلت إليها يوم الأحد سادس عشر شهر المحرم سنة (952)، وأقمت بها إلى السابع من شهر صفر من السنة المذكورة.
ومن غريب ما اتفق لنا بحلب، أنا أزمعنا عند الدخول إليها على تخفيف الإقامة بها بكل ما أمكن ولم ننو الإقامة، فخرجت قافلة إلى الروم على الطريق المعهود المار بمدينة «أذنة» فاستخرنا الله على مرافقتها فلم يخر لنا، فكان قد تهيأ بعض طلبة العلم من أهل الروم إلى السفر على طريق «ملوقات» وهو طريق غير مسلوك غالبا لقاصد قسطنطنية، وذكروا أنه قد تهيأ قافلة للسفر على الطريق المذكور، فاستخرنا الله تعالى على السفر معهم، فأخار به فتأخر سفرهم وساءنا ذلك، فتفألت بكتاب الله تعالى على الصبر وانتظارهم، فظهر قوله تعالى:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم (1) فاطمأنت النفس لذلك، وخرجت قافلة أخرى من طريق «أذنة» وأشار الأصحاب برفقتهم لما يظهر من مناسبتهم، فاستخرت الله تعالى
صفحة ١٧
على صحبتهم، فلم يظهر خيرة، وتفألت بكتاب الله تعالى على انتظار الرفقة الاولى وان تأخروا كثيرا، فظهر قوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره . فقد باء بغضب من الله ثم خرجت قافلة أخرى على طريق «أذنة» فاستخرت الله تعالى على الخروج معها فلم يظهر خيرة، فضقت لذلك ذرعا وسئمت الإقامة، وتفألت بكتاب الله تعالى في ذلك، فظهر قوله تعالى واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين (1) ثم خرجت قافلة رابعة على الطريق المذكور، فاستخرت الله تعالى على رفقتها، فلم يظهر خيرة. وكانت القافلة التي أمرنا بالسفر معها تسوفنا بالسفر يوما وتكذب كثيرا في أخبارنا، ففتحت المصحف صبيحة يوم السبت وتفألت به فظهر قوله تعالى وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون (2). فتعجبنا من ذلك غاية العجب وقلنا ان كانت القافلة تسافر في هذا اليوم فهو من أعجب الأمور وأغربها وأتم البشائر بالخير والتوفيق، فأرسلنا بعض أصحابنا يستعلم الخبر، فقالوا له: اذهب إلى أصحابك واحملوا «امتعتكم» ففي هذا اليوم نخرج. فحمدنا الله تعالى على هذه النعم العظيمة والمنن الجسيمة التي لا نقدر على شكرها.
ثم بعد ذلك ظهر لاقامتنا بحلب تلك المدة فوائد واسرار لا يمكن حصرها، وظهر لسفرنا على الطريق المذكور أيضا فوائد وأسرار وخيرات لا تحصى، وأقلها أنه بعد ذلك بلغنا ممن سافر على تلك الطريق التي نهينا عنها أن عليق الدواب وزاد الناس كان في غاية القلة والصعوبة والغلاء العظيم، حتى أنهم كانوا يشترون العليقة الواحدة بعشرة دراهم عثمانية، واحتاجوا مع ذلك إلى حمل الزاد أربعة أيام لعدم وجوده في الطريق، لا للدواب ولا للإنسان، فلو نسافر في تلك الطريق، لاتجه علينا ضرر عظيم لا يوصف، بل لا يفي جميع ما كان بيدنا من المال بالصرف في الطريق.
صفحة ١٨
وكان وصولنا إلى مدينة قسطنطنية يوم الاثنين، سابع عشر من شهر ربيع الأول من السنة السابعة وهي سنة (952)، ووفق الله تعالى لنا منزلا حسنا وقفا من أحسن مساكن البلد قريبا إلى جميع أغراضنا، وبقيت بعد وصولي ثمانية عشر يوما لا اجتماع بأحد من الأعيان، ثم اقتضى الحال ان كتبت في هذه الأيام رسالة جيدة تشتمل على عشرة مباحث جليلة، كل بحيث في فن من الفنون العقلية والفقهية والتفسير وغيرها، وأوصلتها إلى قاضي العسكر وهو محمد بن قطب الدين بن محمد بن محمد بن قاضي زاده الرومي، وهو رجل فاضل أديب عاقل لبيب، من أحسن الناس خلقا وتهذيبا وأدبا، فوقعت منه موقعا حسنا وحصل لي بسبب ذلك منه حظ عظيم، وأكثر من تعريفي والثناء علي، واتفق في خلال المدة بيني وبينه مباحثة في مسائل كثيرة من الحقائق.
ففي اليوم الثاني عشر من اجتماعي به، أرسل الي الدفتر المشتمل على الوظائف والمدارس وبذل لي ما أختاره، وأكد في كون ذلك في الشام أو في حلب، فاقتضى الحال أن اخترت منه المدرسة النورية ببعلبك لمصالح وجدتها ولظهور أمر الله تعالى بها على الخصوص، فأعرض لي بها إلى السلطان سليمان وكتب لي بها براءة وجعل لي لكل شهر ما شرطه واقفها السلطان نور الدين الشهيد، واتفق من فضل الله وسبحانه ومنه لي في مدة إقامتي بالبلدة المذكورة من الألطاف الإلهية والأسرار الربانية والحكم الخفية، ما يقصر عنه البيان، ويعجز عن تحريره البنان، ويكل عن تقريره اللسان فلله الحمد والمنة والفضل والنعمة على هذا الشأن ونسأله أن يتم علينا منه الإحسان إنه الكريم الوهاب المنان.
ومن غريب ما اتفق لي من نعم الله تعالى وفضله وكرمه وجوده زمان إقامتي بمدينة قسطنطنية، أن خرجت يوما مع الأصحاب وكان ذلك اليوم في شهر جمادي الأولى، لزيارة مشهد شريف هناك يسمونه «أبا أيوب الأنصاري الصحابي» وكان قد بنى عليه السلطان محمد مشهدا خارج البلد. فلما كنت في
صفحة ١٩
المشهد، قرأت جزءا من القرآن وأخذت المصحف وتفألت به أن يكشف لي عن حال حمل كنت قد فارقته بالزوجة قبل سفري وميعاد ولادته أوائل شهر جمادى المذكور، فظهر لي في أول الفاتحة فبشرناه بغلام حليم فسجدت لله شكرا ورجوت من الله تعالى أن يحقق لي ذلك وأن يكون قد رزقني ولدا ذكرا مباركا ميمونا حميد العاقبة، فكتبت صورة الفال والتاريخ في تلك الساعة في رقعة، واستمر الحال إلى أن خرجت من المدينة المذكورة إلى مدينة «اسكدار» وهي قريبة منها، بينها وبينها قطعة يسيرة من البحر، سيرها نحو ميل، فجاءني- وأنا مقيم بها- في يوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر رجب من السنة المذكورة كتب من أصحابنا بالبلاد في بعضها بشارة بولد ذكر ولد في المدة المذكورة.
وكانت مدة إقامتي بمدينة قسطنطنية ثلاثة أشهر ونصفا. وخرجت منها يوم السبت، حادي عشر شهر رجب في السنة المذكورة وعبرت البحر إلى مدينة «اسكدار» وهي مدينة حسنة جيدة، صحيحة الهواء، عذبة الماء، محكمة البناء، يتصل بكل دار منها بستان حسن يشتمل على الفواكه الجيدة العطرة على شاطئ البحر، مقابلة لمدينة قسطنطنية بينهما البحر خاصة. وأقمت بها أنظر وصول صاحبنا الشيخ حسين بن عبد الصمد (1) لأنه احتاج الى التأخر عن تلك الليلة.
وكان خروجنا من «اسكدار» متوجهين الى العراق يوم السبت لليلتين خلتا من شهر شعبان، واتفق أن طريقنا إليها هي الطريق التي سلكناها من «سيواس» إلى «اصطنبول» ووصلنا إلى مدينة «سيواس» يوم الاثنين لخمس بقين من شهر شعبان، وخرجنا منها يوم الأحد ثاني شهر رمضان متوجهين إلى العراق، وهو أول ما فارقناه من الطريق الاولى وخرجنا في حال نزول الثلج وبتنا ليلة الاثنين أيضا على الثلج وكانت ليلة عظيمة البرد.
صفحة ٢٠
ومن غريب ما اتفق لي تلك الليلة إن نمت يسيرا فرأيت في تلك الليلة كأني في حضرة شيخنا الجليل محمد بن يعقوب الكليني (رحمه الله)، وهو شيخ بهي جميل الوجه عليه أبهة العلم ونحوه نصف لمته بياض، ومعي جماعة من أصحابي منهم رفيقي وصديقي الشيخ حسين بن عبد الصمد، فطلبنا من الشيخ أبي جعفر الكليني المذكور نسخة الأصل لكتابة الكافي لننسخه، فدخل البيت وأخرج لنا الجزء الأول منه في قالب نصف الورق الشامي ففتحه فاذا هو بخط حسن معرب مصحح ورموزه مكتوبة بالذهب، فجعلنا نتعجب من كون نسخة الأصل بهذه الصفة، فسررنا بذلك كثيرا لما كنا قبل ذلك قد ابتلينا به من رداءة النسخ. فطلبت منه بقية الأجزاء فجعل يتألم من تقصير الناس في نسخ الكتاب وتصحيحه وقال: اشتغلوا بهذا الجزء إلى أن أجد لكن غيره. ثم دخل الى بيته لتحصيل باقي الأجزاء ثم خرج إلينا وبيده جزء بخط غيره على قالب الورق الشامي الكامل وهو ضخم غير جيد الخط، فدفعه إلي وجعل يشتكي إلينا من كتابة كتابة بهذه الصورة ويتألم من ذلك، وكان في المجلس الأخ الصالح الشيخ زين الدين الفقعاني نفعنا الله ببركته فقال: أنا عندي جزء آخر من نسخة الأصل على الوصف المتقدم ودفعه إلي فسررت كثيرا، ثم فتش البيت وأخرج جزءا آخر الى تمام أربعة أجزاء أو أكثر بالوصف المتقدم، فسررنا بها وخرجنا بالأجزاء إلى الشيخ الجليل المصنف وهو جالس في مكانه الأول، فلما جلسنا عنده أعدنا فيما بيننا وبينه ذكر نسخ الكتاب وتقصير الناس فيه، فقلت:
يا سيدنا بمدينة دمشق رجل من أصحابنا اسمه زين العابدين الغرابيلي قد نسخ كتابك هذا نسخة في غاية الجودة في ورق جيد وجعل الكتاب في مجلدين كل واحد بقدر كتاب الشرائع، وهذه النسخة فخر على المخالف والمؤالف فتهلل وجه الشيخ (رحمه الله) سرورا وأظهر الفرح وفتح يديه ودعا له بدعاء خفي لم أحفظ لفظه، ثم انتبهت.
وانتهينا بعد أربعة أيام من اليوم المذكور إلى مدينة «ملطية» وهي مدينة
صفحة ٢١
لطيفة كثيرة الفواكه تقرب من أصل منبع الفرات ومررنا بعد ذلك بمدينة لطيفة تسمى «أزغين» وهي قريبة من منبع الدجلة.
وكان وصولنا الى المشهد المقدس المبرور المشرف بالعسكريين بمدينة «سامراء» يوم الأربعاء رابع شهر شوال، وأقمنا به ليلة الخميس ويومه وليلة الجمعة.
ثم توجها إلى «بغداد» ووصلنا إلى المشهد المقدس الكاظمي يوم الأحد ثامن الشهر وأقمنا به الى يوم الجمعة وتوجهنا ذلك اليوم لزيارة ولي الله تعالى «سلمان الفارسي» و«حذيفة بن اليمان» رضي الله عنهما.
ورحلنا منه إلى مشهد الحسين (عليه السلام) ووصلنا يوم الأحد منتصف الشهر المذكور، وأقمنا به الى يوم الجمعة.
وتوجهنا منه إلى «الحلة» وأقمنا بها إلى يوم الجمعة، وتوجهنا منها إلى زيارة القاسم ثم إلى «الكوفة» ومنها إلى المشهد المقدس الغروي، ووصلنا اليه يوم الأربعاء ثالث شهر ذي القعدة الحرام وأقمنا به بقية الشهر.
واتفق لنا من فضل الله تعالى وكرمه ورأفته وعنايته من التوفيقات الإلهية والخيرات الربانية والتأييدات السبحانية والنعمة الشاملة والرحمة الواصلة ما لا يقتضي الحال ذكره ومفيضه سبحانه أعلم به، ونسأل من فضله العميم وكرمه الجسيم أن يمدنا بفضله ويجود علينا بستره وكفايته كما عودنا ذلك فيما سلف، وأن يعصمنا فيما بقي من كل ما يخالف رضاه ويبعد عن جواره، ويحرسنا بعين عنايته، وقد أظهر الله سبحانه لجماعة من الصالحين بالمشهدين وغيرهما آيات باهرة ومنامات صالحة وأسرارا خفية أوجبت كمال الإقبال وبلوغ الآمال، فله الحمد والمنة على كل حال.
ومما اتفق لي أني كنت جالسا عند رأس الضريح المقدس ليلة الجمعة وقرأت شيئا من القرآن وتوجهت ودعوت الله أن يخرج لي ما اختبر به عاقبة أمري بعد هذه السفرة مع الأعداء والحساد وغيرهم، فظهر في أول الصفحة اليمنى
صفحة ٢٢
ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين فسجدت الله شكرا على هذه النعمة والتفضل بهذه البشارة السنية.
وكان خروجنا من المشاهد الشريفة بعد أن أدركنا زيارة عرفة بالمشهد الحائري والغدير بالمشهد الغروي والمباهلة بالمشهد الكاظمي سابع عشر شهر ذي الحجة الحرام من السنة المتقدمة ولم يتفق لنا الإقامة لإدراك زيارة عاشوراء مع قرب المدة لعوارض وقواطع منعت من ذلك والحمد لله على كل حال.
واتفق وصولنا الى البلاد منتصف شهر صفر سنة (953) ووافقه من الحروف بحساب الجمل حروف «خير معجل» وهو مطابق للواقع أحسن الله خاتمتنا بخير كما جعل بدايتنا الى خير، بمنه وكرمه.
ثم أقمنا ببعلبك ودرسنا فيها مدة في المذاهب الخمسة وكثير من الفنون وصاحبنا أهلها على اختلاف آرائهم أحسن صحبة وعاشرناهم أحسن عشرة، وكانت أياما ميمونة وأوقاتا مبهجة، ما رأى أصحابنا في الأعصار مثلها.
ثم انتقلنا عنهم إلى بلدنا بنية المفارقة امتثالا للأمر الإلهي سابقا في المشاهد الشريفة ولاحقا في المشهد الشريف، مشهد شيث (عليه السلام)، وأقمنا في بلادنا إلى سنة خمس وخمسين مشتغلين بالدرس والتصنيف (1).
آيات الثناء عليه
أثنى عليه كل من ترجم له ووصفوه بغزارة العلم وصلابة الإيمان والزهد والعبادة والأمانة والوثاقة وحسن القريحة وشدة الاهتمام بخدمة الدين الحنيف والمذهب الحق.
ولم نجد من يغمز فيه بشيء إلا ما ذكره بعضهم من الاعتراض على حضوره مجامع فقهاء العامة وقراءته عليهم وروايته عنهم. ولعمري ان هذا مما
صفحة ٢٣
يمتدح به ذلك الرجل العظيم الذي لم يمنعه شدة التعصب والشنآن الذي أبداه بعض جهلة العامة المتفقهين والمتلبسين لباس أهل العلم والدين من الكد والسعي والاغتراب في سبيل تحصيل العلم أينما وجد فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.
وإليك فيما يلي بعض ما جادت به قرائح المترجمين له- (قدس الله نفسه الزكية)-:
أما تلميذه ابن العودي فقد ملأ رسالته المزبورة بالثناء على الشهيد، ولا غرو فإنه كان من أقرب الناس اليه وكان يتمتع ويحظى بالتشرف لديه والاستضاءة بنوره فقال فيما قال:
«وبالجملة فهو عالم الأوان ومصنفه، ومقرظ البيان ومشنفه بتآليف كأنها الخرائد وتصانيف أبهى من القلائد، وضعها في فنون مختلفة وأنواع، وأقطعها ما شاء من الإتقان والابداع، وسلك فيها مسلك المدققين وهجر طريق المتشدقين، ان نطق رأيت البيان منسربا من لسانه، وإن أحسن رأيت الإحسان منتسبا الى إحسانه، جدد شعائر السنن الحنيفية بعد إخلاقها، وأصلح للأمة ما فسد من أخلاقها، وبه اقتدى من رام تحصيل الفضائل واهتدى بهداه من تحلى بالوصف الكامل، عمر مساجد الله وأشاد بنيانها ورتب وظائف الطاعات فيها وعظم شأنها، كم أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وكم أرشد من صلى وصام وحج واعتمر.
كان لأبواب الخيرات مفتاحا وفي ظلمة عمى الأمة مصباحا. منه تعلم الكرم كل كريم وبه استشفى من الجهالة كل سقيم واقتفى أثره في الاستقامة كل مستقيم، لم تأخذه في الله لومة لائم ولم يثن عزمه- عن المجاهدة في تحصيل العلوم- الصوارم، أخلصت لله أعماله فأثرت في القلوب أقواله.
أعز ما صرف همته فيه، خدمة العلم وأهله، فحاز الحظ الوافر لما توجه
صفحة ٢٤
اليه بكله» (1).
وقال العلامة الرجالي السيد مصطفى التفريشي المتوفى في أواسط القرن الحادي عشر في كتاب «نقد الرجال»:
«وجه من وجوه هذه الطائفة وثقاتها، كثير الحفظ، نقي الكلام، له تلاميذ أجلاء، وله كتب نفيسة جيدة منها شرح شرائع المحقق الحلي- (قدس سره). قتل (رحمه الله) لأجل التشيع في قسطنطنية في سنة ست وستين وتسعمائة رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثواه» (2).
وقال المحدث الحر العاملي صاحب وسائل الشيعة المتوفى سنة (1104) في «أمل الآمل»:
«أمره في الثقة والعلم والفضل والزهد والعبادة والورع والتحقيق والتبحر وجلالة القدر وعظم الشأن وجمع الفضائل والكرامات، أشهر من أن يذكر ومحاسنه وأوصافه الحميدة أكثر من أن تحصى وتحصر، ومصنفاته كثيرة مشهورة. وكان فقيها محدثا نحويا قارئا متكلما حكيما جامعا لفنون العلم وهو أول من صنف من الإمامية في دراية الحديث» (3).
وقال المحدث البحراني صاحب «الحدائق» المتوفى سنة (1186):
«وكان هذا الشيخ من أعيان هذه الطائفة ورؤسائها وأعاظم فضلائها وثقاتها وهو عالم عامل محقق مدقق زاهد مجاهد ومحاسنه أكثر من أن تحصى وفضائله أجل من أن تستقصى» (4).
وقال المحقق الشيخ أسد الله التستري صاحب كتاب «مقابس الأنوار» المتوفى سنة (1237) في مقدمة كتابه:
صفحة ٢٥
«أفضل المتأخرين وأكمل المتبحرين، نادرة الخلف وبقية السلف، مفتي طوائف الأمم والمرشد إلى التي هي أقوم، قدوة الشيعة ونور الشريعة، الذي قصرت الأكارم الأجلاء عن استقصاء مزاياه وفضائله السنية وحارث الأعاظم الألباء في مناقبه وفواضله العلية، الجامع في معارج الفضل والكمال والسعادة بين مراتب العلم والعمل والجلالة والكرامة والشهادة، المؤيد المسدد بلطف الله الخفي والجلي، الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد الشامي العاملي- (قدس الله نفسه الزكية)- وأفاض على تربته المراحم الأبدية. وقد تلمذ على كثير من علماء الخاصة والعامة وروى عن جم غفير منهم معظم كتب الفريقين في العلوم العقلية والنقلية والفنون الأدبية، وله كتب ورسائل كثيرة فاخرة مهذبة في فنون مختلفة ومطالب متشعبة» (1).
وقال السيد الخوانساري المتوفى سنة (1313) في «روضات الجنات»:
«. أفاض الله على تربته الزكية من سجال رحمته وفضله وكرمه وجزائه اللطيف السبحاني. لم ألف الى هذا الزمن الذي هو من حدود ثلاث وستين ومائتين بعد الألف أحدا من العلماء الأجلة يكون بجلالة قدره، وسعة صدره، وعظم شأنه، وارتفاع مكانه، وجودة فهمه، ومتانة عزمه، وحسن سليقته، واستواء طريقته، ونظام تحصيله، وكثرة أساتيذه، وظرافة طبعه، ولطافة صنعه، ومعنوية كلامه، وتمامية تصنيفاته وتأليفاته، بل كاد أن يكون في التخلق بأخلاق الله تبارك وتعالى، تاليا لتلو المعصوم.» (2).
وترجم له أيضا العلامة المحدث النوري في خاتمة «مستدرك الوسائل» (3) وأثنى عليه بمثل ما ذكره صاحب المقابس تقريبا وكذلك العلامة المامقاني في «تنقيح المقال» (4) وجمع فيه من عبارات الثناء بين ما ذكره التفريشي والحر
صفحة ٢٦
العاملي.
وقال العلامة السيد محسن الأمين في «أعيان الشيعة»:
«كان عالما فاضلا جليل القدر عظيم الشأن، رفيع المنزلة تقيا، نفيا، ورعا، زاهدا، عابدا، حائزا صفات الكمال متفردا منها بما لا يشاركه فيه غيره، مفخرة من مفاخر الكون وحسنة من حسنات الزمان أو من غلطات الدهر كما يقال. كان فقيها ماهرا في الدرجة العليا بين الفقهاء، محدثا أصوليا مشاركا في جميع العلوم الإسلامية، لم يدع علما من العلوم حتى قرأ فيه كتابا أو أكثر على مشاهير العلماء من النحو والصرف والبيان والمنطق واللغة والأدب والعروض والقوافي والأصول والفقه والتفسير وعلم الحديث وعلم الرجال وعلم التجويد وأصول العقائد والحكمة العقلية والهيئة والهندسة والحساب وغير ذلك.» (1).
وقال العلامة الأميني صاحب كتاب «الغدير»:
«من أكبر حسنات الدهر وأغزر عيالم العلم، زين الدين والملة وشيخ الفقهاء الأجلة، مشارك في علوم مهمة من حكمة وكلام وفقه وأصول وشعر وأدب وطبيعي ورياضي. وقد كفانا مئونة التعريف به شهرته الطائلة في ذلك كله فقد تركته أجلى من أي تعريف، فما عسى أن يقول فيه المتشدق ببيانه، وكل ما يقوله دون أشواطه البعيدة وصيته الطائر فسلام الله عليه على ما أسداه إلى أمته من أياديه الواجبة، ونشره فيها من علوم ناجعة» (2).
تطور ثقافته وتعلمه حتى الاجتهاد
مر علينا فيما نقلناه من ترجمته لنفسه أنه لم يحفظ مبدأ اشتغاله بالتعلم وحكى ابن العودي في رسالته انه- (قدس سره)- ذكر له انه حين اشتغاله بالعلم
صفحة ٢٧
كان صغيرا جدا وأن أباه كان رؤوفا به، متفرسا فيه الخير والنجابة، وانه لم يضربه قط بل أوصى معلمة في الصغر أن لا يضربه وانه كان لا يشتغل باللعب وما يلتهي به الأطفال من أقرانه. وقد ختم القرآن وعمره لم يتجاوز التاسعة وقرأ على أبيه العلامة، الفنون العربية وبعض الكتب الفقهية الى أن توفي والده وعمره حينئذ أربعة عشر سنة، ثم ارتحل في طلب العلم الى «ميس» و«كرك نوح» و«دمشق» ولم يكتف بما تعلم من الثقافة الشيعية في هذه البلدان وما يسمعه من مشايخه ويقرأه في الكتب من فقه العامة وأحاديثهم، بل بلغت به همته العالية أن تكبد مشاق السفر والهجرة إلى مصر وهي آنذاك مركز من مراكز الثقافة الإسلامية، فحضر مجالس علمائها وقرأ عليهم كتب الفقه والحديث وسمع منهم آراء العامة مباشرة وناظر بعضهم في بعض المسائل- كما يتحدث عنه ابن العودي في رسالته- واستفاد منهم ما كان مفيدا ومؤثرا في توسيع الثقافة العلمية في حوزات الشيعة، ولذلك قام بتأليف أول كتاب في دراية الحديث على مذهب الإمامية، وعلى أثر ذلك أيضا صنف كتاب «تمهيد القواعد الأصولية والعربية لتفريع الأحكام الشرعية» جاري به ما ألفه «الأسنوي الشافعي». وبتأثير تلك الثقافة أيضا صنف أول شرح مزجي في تصانيف الشيعة. ونجد أيضا في كتبه الفقهية، في بعض المسائل، مقارنة بديعة بين فقه الشيعة وفقه العامة في المسائل الخلافية المهمة.
والحاصل أن غرضه- (قدس الله نفسه)- من حضور مجامع العلم في مصر لم يكن إلا توسعة الثقافة والاطلاع عن قريب على ما لدى علمائها من علم وإبداع وقد بلغ هدفه في ذلك واستفاد وأفاد ولم يكن في ذلك أي حزازة ومكروه كما ظنه بعض من ترجم له.
واما ما ذكره ولده المحقق الشيخ حسن (رحمه الله) من عدم الرضا بفعل والده وجماعة أخرى من العلماء وأنه قد ترتب عليه ما ترتب، فلا يقصد به الا أنه قد ترتب عليه قتل الشهيد كما صرح به في موضع آخر على ما حكي عنه.
صفحة ٢٨