وإن الطريق إلى «هاسكيوي» مملوءة بجثث عديدة، وكلما مررنا على قرية رأيناها خاوية على عروشها ليس بها إلا بقايا المذبوحين والمقتولين، ولقد سألنا بعض البلغاريين: من قتل هؤلاء؟ فأجابونا بصوت الشامت المسرور: «إننا ونصراءنا قتلناهم شر قتلة.»
أما في هاسكيوي فكنت ترى كثيرا من الجنود التركية مقتولين، وفضلا عما أصابهم من الجراح القاتلة، فإن فلاحي البلغار لم يشفقوا عليهم، بل رجموهم بالحجارة؛ ليفنوا عظام هؤلاء الشهداء الأبطال.
ولقد سألت إحدى العائلات التركية: من أين جاءت وإلى أين تسير؟ فقالت لي: إنها تركت «بلفنة» من خمسة شهور مضت، وهي على مثل حالها من الفقر المدقع تسير ليلا ونهارا لا غذاء لديها سوى ما تجده من لحوم الحيوانات التي تموت في الطرق، وكانت هذه العائلة مكونة من أب وأم على صدرها طفل صغير وولد يبلغ العاشرة من العمر، وكلهم حفاة عراة، الأرض فراشهم والسماء غطاؤهم، وليس لديهم سوى بعض خرق يسترون بها سوآتهم وقدرة يطبخون فيها اللحم.
وكلما سرنا خطوة بعد «هاسكيوي» رأينا مناظر أبشع وأفظع، فكم رأينا امرأة وزوجها مقتولين نائمين بجانب بعضهما وطفلين بقربهما على الثلوج، وشيوخا متكسرة جماجمهم، وكل هذا فضلا عن خراب القرى وسلب ونهب ما لأصحابها من الخيرات والأشياء النافعة. ومن المناظر التي تولد الحسرة وتحزن الفؤاد أنني رأيت شيخا هرما من الترك ملقى على الأرض وبجانبه مصحف قرآن شريف مفتوحا وملوثا بدمائه، وذلك بينما كان البلغاريون يسلبون الناس أموالهم ويحملونها على عرباتهم، ثم يجرونها فوق جثث القتلى؛ لتدهس العجلات لحومهم، وتفتت عظامهم، وتهشم جماجمهم بلا رحمة ولا شفقة، بل وبلا تأثر لمثل تلك المناظر البشعة الفظيعة، فأين المدنية؟! وأين حب الإنسانية؟!
وإني أقول إن عدد الذين فتك بهم البلغاريون من الأبرياء الآمنين كثير جدا، وقد ترك بيوتهم نحو الخمسة وسبعين ألفا هروبا من المعاملة القاسية البربرية، ولكنهم لا يكادون يفرون من القتل حتى ينقض عليهم البلغاريون ويفتكون بأغلبهم، ولم يهرب إلا القليل إلى بلاد الترك، وإنه ليحق للعالم أن يسمي الطريق بين فيلوبوبوليس وهرمنلي «طريق الموتى» لكثرة ما فقد فيه من الأرواح البريئة.
ولقد رأينا في طريقنا إلى قسطنطينية من أمثال هذه المناظر الفظيعة كثيرا، وكم رأينا أناسا من الضعفاء يسيرون سريعا لا يلتفتون وراءهم خوفا من أعدائهم، وإذا سألتهم إلى أين يسيرون لم يجيبوك من شدة ضعفهم وانتهاك قواهم، كأنما هم لا يعرفون إلى أي طريق هم سائرون، وإنما غاية ما يتصورون أنه يجب عليهم الفرار حتى يأمنوا على أرواحهم، ومن شدة فزعهم وهلعهم كانوا يتركون أمتعتهم حين تكسر لهم عربة ويفرون وحدهم.
وإني بينما أكتب هذه الأسطر أرى أمام عيني كثيرا من العربات تغدو بأصحابها بين هضاب متراكمة من الثلج، وأغلب النساء يسرن حفاة عراة خائرات القوى من الضعف والتعب.
ولذلك ضوضاء يصحبها صراخ الأطفال وعويل الأولاد وبكاء النساء وزفزفة العواصف وقرقعة عجلات العربات مما يزيد المنظر فظاعة وبشاعة، ومع الأسف الزائد أن هؤلاء المساكين التعساء يروحون فريسة الظلم وليس من يرحمهم أو يشفق عليهم.
وقد كتب مكاتب الستندرد الذي سار مع الدوق نيقولا وجاب الجزء الشمالي من بحيث جزيرة البلقان ما نصه:
لم أترك لنفسي مجالا للتكلم عن كبائر الفظائع كما يجب أن نسميها، وأقول الآن: إن المتوحشين لا يفعلون مع الفارين الهاربين كما فعل البلغاريون مع جيرانهم الأتراك من القساوة البربرية والمعاملة الوحشية، وما حمل هؤلاء المسيحيين على فعل هذه المنكرات سوى حب نفوسهم الخبيثة للفتك بعباد الله، وظمئها إلى شرب دماء جيرانهم الأبرياء الذين لا سلاح بأيديهم، ولقد سمع تابع لي رجلا بلغاريا في إحدى حوانيت الخمر في «سيستوف» يقول وهو حامل سكينة هائلة: «كنت أحمل معي بندقية، ولكن هذه السكينة اللطيفة أفادتني أكثر من البندقية؛ لأني ذبحت بها عشرة منهم كما تذبح الأغنام.»
صفحة غير معروفة