بيد أنه من المسلم به أن العقلية الآرية الممتازة وذكاء الآريين الخارق بالإضافة إلى ظروفهم النادرة وثرائهم الواسع وما إليهما من العوامل قد ساعدتهم كثيرا في تنميق تلك الحضارة وتنسيقها وإبرازها بين العالمين، وقد تفرد الآريون حقبة طويلة في الأمور العقلية فذابت فيهم وذابوا فيها، ونشأت فيهم على مر الزمن مدارس فكرية كثيرة ومنها المدرسة الفيدية والمدرسة البرهمية على اختلاف أنواعها، والمدرسة اليوجية والمدرسة الجينية والمدرسة البوذية على اختلاف أنواعها.
أما ديانة الهنود الأقدمين فلم يعرف عنها على التحقيق شيء أو قل إنه قد عرف عنها القليل جدا. وحسبنا أن نذكر أنهم كانوا يعبدون الثور وأن الأم الإلهية كانت تستأثر بقصر عظيم، كما يبدو من التماثيل والصور الخاصة. وعند السير جون مارشال أنها وثيقة الصلة بما وجد من نظائرها في إيران والبلقان وما بينهما. أما عبادة سيفا الهند فهي مركبة، ذلك أن جزءا منها يحتمل أن يكون مشتقا من سكان وادي الهندوس أو من شعب آخر نقلها إلى الآريين، على أنه لم يوجد هناك موضع النار الذي كان محفورا في كل دار من دور الآريين. أما الموتى فكانت جثتهم تحرق، على أنه قد وجد في «هاريا» مقابر قليلة تخلف في بعضها آثار الطعام وأشياء شخصية أخرى مما كان الإنسان البدائي يقدمه إلى موتاه ليستخدموها في عالم الأموات. هذا ويبدو أن الفيضانات قد اكتسحت آثار الحضارة الهندوسية القديمة والمدى الذي بلغته. وقد وجدت في «موهينجو دارو» ثلاث من ذوات الطوابق، وكذلك في ولاية كايوت في الطريق القديم إلى الهندوس قد وجدت آثار حضارة أقل رقيا كشفت في 1935. راجع: «موهينجو دارو وحضارة الهندوس» «تأليف سير جون مارشال».
كذلك نستطيع أن نقف على شيء كثير أو قليل من تاريخ الهند القديم، إذا استقرأنا أشعار الآريين المقدسة، وهؤلاء الآريون - كما قدمنا - يرجعون هم والإيرانيون «الفرس» إلى أصل واحد، ويتكلمون لغة قريبة النسب بالفارسية واليونانية واللاتينية، والتيوتونية والسلافية، ذلك أن أدبهم القديم يكشف النور عن حياة الأمة الآرية وإن كان دخول الآريين الهند أو غزوها لم تتحقق الروايات التاريخية وسيلته. ومهما يكن من شيء فإنه كان من أثر دخول هؤلاء الهند أن الأفكار الدينية والآراء الفلسفية قد سيطرت على حياة سكانها من الهندوس إلى مصب نهر الجنج وجنوبا إلى تلال الفينديا. وقد جاءت دراسة أدب القوم وفلسفتهم متأخرة، ذلك أن «شركة شرقي الهند الإنجليزية» قد ترجمت الأدب السنسكريتي القديم للمرة الأولى من الفارسية إلى الإنجليزية في 1776. وبعد هذا بعشر سنوات جاء سير ويليام جونز عضو المحكمة العليا في كلاكاتا، فاستند إلى دراسته العميقة للغة السنسكريتية، في وضع أسس علم اللغات المقارنة الحديث، وكان من أثر أمثال هذه الدراسات أن انكشف شيء من الغطاء عن تاريخ الهند قبل الحكم الإسلامي منذ القرن الحادي عشر الميلادي، ولعل من أسباب هذا أن الهند كانت محوطة بأسوار من الجبال التي حجبت ما يتلوها، فأتيح للهندوآريين أن يشيدوا حضارة، وأن يؤسسوا ثقافة خاصة بهم، ولعل في مقدمة هذا الديانة البرهمية الوطنية والعقيدة البوذية الشاملة. هذا ولم يكن لغزوات الأجانب من فرس ويونان ومسلمين في سير الحضارة والثقافة الهنديتين وتقاليدهما أثر محسوس أو عميق؛ إذ لا يزال الفلاح الهندي يزرع الأرض ويشعل النار بعصوين، تاليا قراءات دينية معينة، محافظا على تقاليد حياته وعلى أدب الحضارة الآرية على مثال سلفه منذ آلاف السنين إلى الاحتلال البريطاني الذي أدخل معه كثيرا من النظم البريطانية والأوربية في الحضارة والثقافة وما إليهما.
أصل الشعب الهندي
حين غزا الآريون الهند، كان يسكن أكثر بقاعها قوم يطلق عليهم اسم «الدرافيديين» نسبة إلى «الدرافيدا» وهو الاسم القديم لمملكة «التاميل» في جنوبي الهند، غير أن الغزاة أطلقوا على «الدرافيديين» اسم «داس» أو «داسياس» ومعناها «الوطني». وقد وصفتهم «الفيدا» بأنهم شعب ذو بشرة سوداء وأنف عريض، وكانوا في شمال الهند يسكنون قرى محصنة ويملكون قطعانا من الماشية، وقد يكونون قد أدخلوا نظام ري حقول الأرز في وادي الكنج. أما ديانتهم فقد كانت «فالية». وعند «ب.س. فوستار» في كتابه «رحلات الإنسان البدائي وإقامته، ص43 وما بعدها؛ طبعة 1929»: أن أفراد هذا الشعب قد استعمروا غنيا الجديدة حول نهاية الألف الرابعة ق.م، مؤلفين سكان الهند الأقصى وجنوب الصين. أما انتقالاتهم الأولى فهي غير معروفة. هذا ويبدو من اللغات التي لا تزال مستعملة في الهند، أنه يمكن أن يجد الإنسان النيوليتكي، وهو كما أوضحناه في كتابنا «تاريخ ما قبل التاريخ»، إنسان عصر الحجر الجديد، في نسل القبائل الهندية البدائية التي كانت تسكن الغابات كقبائل البهيل والميناس. وعلى هذا قد يكون الذين يتكلمون البراهوية في الوقت الحاضر قد تخلفوا عن الدرافيديين في بلوخستان، حين جازوها في طريق غزوتهم الأولى للهند.
لم يقف الدرافيديون أمام الغزو الآري طويلا وفي كل مكان، بل إنهم تراجعوا أمام الآريين أو أذعنوا لهم؛ لأنه بينما كانت آلات الدرافيديين من الحجر، كان سلاح الغزاة وأدواتهم من المعادن، ومن ثم كانت لهم الغلبة على الوطنيين الذين فقدوا أرضهم وحريتهم وأصبحوا عبيدا للغزاة بل قطعانا، غير أن سكان الجنوب قد وقفوا الغزو الآري قرونا أمام تلال الفيندايا والغابات التي تكاد لا يمكن اقتحامها.
هذا ومنذ التاريخ القديم جدا كان يسكن السهول الواسعة أناس من الرعاة يطلق بعضهم على البعض الآخر اسم «آرياس»؛ أي الإخوان، دب بينهم دبيب الخصومة والانقسام فهاجرت منهم جماعات في فترات غير متلاحقة جنوبا، متخذين من الصخور فئوسا عاونتهم في تحطيم الأشجار مع اتخاذ أخشابها في فلاحة الأرض والدفء وبناء الأكواخ، ووسعهم أن يستخدموا أبناء الأقوام التي غلبوها على أمرها في الزراعة قانعين بالسيادة وبالحرب والغزو، الذي امتد إلى السهول الخصبة الفسيحة في الشمال الغربي من بلاد الهند، متغلبين على المقاومة العنيفة التي أبداها الداسيون، السكان الأصليون لهذه المنطقة، فدانوا للقوة الغاشمة الغازية، وأطلق عليهم الناس بعدئذ اسم «شودارس» الذين تألفت من بعضهم طبقة المنبوذين، بعد أن فر الباقون إلى مستنقعات الدكن وغاباته ولبثوا هناك إلى اليوم.
الفصل الثالث
الآريون في الهند
عند «ماكس ميلار» في كتابه «بيوغرافية الكلمات ووطن الآريين» أن الآرية مجموعة لغات تسمى الأنيدو بوروميان، وأن الآريين هم الذين يتكلمون إحدى اللغات الآرية مهما يكن لون بشرتهم وموقع بلادهم. وعند «إ. و. هو بكينز» في كتابه «الهند القديمة والجديدة» أن جماعة الريجافيدا كانت في منطقة أومبالا، وأن أفرادها كانوا يفخرون بأنهم آريون.
صفحة غير معروفة