والطرق الموجودة في الحبشة الآن صالحة إلى حد، ولكن نظام التلغرافات ما يزال في حاجة ماسة إلى تحسين؛ فإن الأسلاك ثقيلة، وفي بعض الأحايين تعلق على الأشجار؛ ولهذا فإنها معرضة كثيرا للسقوط. وهذه الأسلاك معلقة على قضبان يأكلها النمل الأبيض فتسقط، ولكن بجانب هذا تجد المخاطبات اللاسلكية بين أطراف الحبشة وبين أديس أبابا وكل أنحاء العالم. •••
والتجارة وإن كانت ما تزال ضئيلة الشأن إلا أنها سائرة سيرا حثيثا في طريق التقدم. •••
حدث منذ عهد قريب أن سافر أمير حبشي إلى اليابان في مهمة شبه دبلوماتكية، وبينما هو هناك تعلق بحب ابنة أحد نبلاء اليابان، وأراد أن يقترن بها ففشل، ولكنه نجح في عقد اتفاقية تجارية، فاستطاع هذا الحبشي أن يقدم للنبيل الياباني امتيازا لاستغلال مليوني فدان من الأراضي الصالحة لزراعة القطن ... قدمها صفقة رابحة لهذا النبيل الياباني السعيد الحظ.
وفي الحقيقة أن عمل الإمبراطور هذا لا يعد غريبا منه؛ فإنه يرتاب أشد الريبة في الدول الأوروبية التي لها مصالح في الحبشة والتي تملك بعض مستعمرات قريبة منه، فلا يريد التقرب منها سواء أكانت تأتي إليه بالفروض والهدايا أم لا تحمل إليه شيئا، في الوقت الذي يرحب بصداقة الدول التي تقول أنها بعيدة عنه كالولايات المتحدة واليابان، فيسعى إلى خطب ودها بمنحها الامتيازات التي لا تكاد تعقل كلما انتابته الملمات ووقع في الضيق والمحن.
حياة الإمبراطور كلها إنما هي عبارة عن ظفر العقل على المادة ... الرجل مستقيم في كلامه ... بسيط في معيشته ... بشوش ... مجامل ... ضئيل الجسم ... يقرب لون بشرته من لون العاج ... سامي في تقاطيع وجهه وملامحه لا يعرف غير العمل المتواصل المضني، فهو يكب على عمله من الصباح الباكر إلى ساعة متأخرة من الليل ... شديد الشغف بالقراءة والاطلاع على المؤلفات العلمية وعلى الأخص العلمية منها.
جمع في قصره أحد المخترعات: اللاسلكي ... السينما ... الضوء الكهربائي ... بل رئيس مطبخ أوروبي! وتجد ضمن حدود قصره لبانة عصرية تمد المؤسسات الأوروبية بما تحتاج إليه من ألبان ... وزبدة ... وجبنة.
ولكنك تجد خارج قصره مظاهر الوحشية، فهناك تجد الزعماء الذين ما يزالون يعيشون على النمط الإقطاعي، ولا يخضعون إلا لقوانينهم التي تعارض قوانين الإمبراطور وأحكامه؛ أمثال الرأس هيلو الذي هجم مرة على أديس أبابا مع ألوف من أتباعه للاستيلاء على العرش!
والإمبراطور تفري سياسي مشهود له بالحذق والمهارة، لم يقع في الأخطاء التي وقع فيها أمان الله الذي حاول أن يرغم الشعب على قبول الإصلاحات العصرية التي كان يريد أن يدخلها عنوة واقتدارا دون أن يهيئ العقول لها؛ ولهذا فإنه لم يلاق المصير الذي لاقاه أمان الله.
وليس أدل على دهائه من أنه عند زيارته لأوروبا عام 1924 جمع كل الزعماء الذين ينتظر أن يحدثوا القلاقل في أثناء تغيبه عن البلاد «وحملهم» معه، وتكاليف هذا «الحمل» - ولا شك - ونفقات نقله أقل بكثير من نفقات إخضاعهم إذا عمدوا إلى الثورة في غيابه.
والإمبراطور دبلوماتيكي، يستخدم الأساليب الدبلوماتيكية كلما وجد أية مناسبة لاستخدامها، ويستعمل السياسة والحكمة في مفاوضاته مع كنائس الشرق الأدنى التي تنافس كنيسته، وقد استطاع أن يحصل من بطريرك القدس الأرثوذكسي على حق بناء كنيسته بالقرب من القديس إبراهيم، فتحققت أمنية طالما تمنتها الكنيسة الحبشية الأصلية.
صفحة غير معروفة