بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطاهرين.
وبعد، فقد وصلني (1) المدرج المنطوي على المسائل الواردة (2) من جهة السند الشريف الفاضل - أطال الله (3) في عز الدين والدنيا مدته (4)، وأدام تأييده ونعمته (5) - ووقفت (6) على جميعها، وضاق المدرج عن إثبات أجوبتها، فأمليت (7) ذلك في كتاب مفرد يأتي على المعنى إن شاء الله تعالى.
صفحة ٢٩
المسألة الأولى في المتعة والرجعة ما قول الشيخ المفيد - أطال الله بقاءه، وأدام (1) تأييده وعلاه، وحرس معالم الدين بحياطة (2) مهجته (3)، وأقر عيون الشيعة بنضارة أيامه - فيما يروى عن مولانا جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام في الرجعة؟
وما معنى قوله عليه السلام " ليس منا من لم يقل بمتعتنا، ويؤمن برجعتنا (4) أهي حشر في الدنيا مخصوص للمؤمنين، أو لغيرهم (5) من الظلمة الجائرين (6) قبل يوم القيامة؟
الجواب:
وبالله التوفيق.
إن المتعة التي ذكرها الصادق عليه السلام هي النكاح المؤجل الذي
صفحة ٣٠
كان (1) رسول الله صلى الله عليه وآله أباحها لأمته في حياته، ونزل القرآن بإباحتها أيضا (2)، فتأكد (3) ذلك بإجماع الكتاب والسنة فيه (4).
حيث يقول الله عز وجل: وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة " (5).
فلم تزل على الإباحة بين المسلمين، لا يتنازعون فيها، حتى رأى عمر ابن الخطاب النهي عنها، فحظرها وشدد في حظرها، وتوعد (6) على فعلها (7) فاتبعه الجمهور على ذلك، وخالفهم جماعة من الصحابة والتابعين فأقاموا على
صفحة ٣١
تحليلها إلى أن مضوا لسبيلهم (1).
واختص بإباحتها جماعة (2) أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام، فلذلك أضافها الصادق عليه السلام إلى نفسه (3) بقوله: " متعتنا " (4).
وأما قوله عليه السلام (5): " من لم يقل برجعتنا فليس منا " فإنما أراد بذلك ما يختصه (6) من القول به في أن الله تعالى يحيي (7) قوما من أمة محمد صلى الله عليه وآله بعد موتهم، قبل (8) يوم القيامة، وهذا مذهب يختص به آل محمد صلى الله عليه وعليهم.
وقد أخبر الله عز وجل في ذكر الحشر الأكبر يوم القيامة (9):
وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " (10).
صفحة ٣٢
وقال سبحانه في حشر الرجعة قبل يوم القيامة (1): ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون " (2) فأخبر أن الحشر حشران:
عام وخاص.
. وقال سبحانه مخبرا (3) عمن يحشر من الظالمين أنه يقول (4) يوم الحشر الأكبر: ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل " (5).
وللعامة في هذه الآية تأويل مردود، وهو (6): أن المعني بقوله: ربنا أمتنا اثنتين " أنه خلقهم أمواتا ثم أماتهم بعد الحياة (7).
وهذا باطل لا يجري (8) على لسان العرب، لأن الفعل لا يدخل إلا على ما (9) كان بغير (10) الصفة (11) التي انطوى اللفظ على معناها، ومن خلقه
صفحة ٣٣
الله مواتا (1) لا يقال إنه (2) أماته (3)، وإنما يقال ذلك فيمن (4) طرأ عليه الموت بعد الحياة.
كذلك (5) لا يقال أحيا (6) الله ميتا إلا أن يكون قد كان قبل إحيائه ميتا (7). وهذا بين لمن تأمله (8).
وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله: ربنا أمتنا اثنتين " الموتة التي تكون (9) بعد حياتهم في القبور للمسألة، فتكون الأولى قبل الإقبار (10)، والثانية بعده (11).
وهذا أيضا باطل من وجه آخر، وهو أن الحياة للمسألة ليست للتكليف فيندم الإنسان على ما فاته في حاله (12)، وندم القوم على ما (13) فاتهم في حياتهم المرتين (14) يدل على أنه لم يرد حياة المسألة، لكنه أراد حياة
صفحة ٣٤
الرجعة التي تكون لتكليفهم والندم (1) على تفريطهم، فلا يفعلون (2) ذلك فيندمون يوم العرض على ما فاتهم من ذلك.
فصل:
في من يرجع من الأمم والرجعة عندنا تختص بمن محض الإيمان ومحض (3) الكفر، دون ما سوى هذين الفريقين (4)، فإذا أراد (5) الله تعالى على ما (6) ذكرناه أوهم الشيطان أعداء الله عز وجل إنما ردوا إلى الدنيا لطغيانهم على الله، فيزدادوا عتوا، فينتقم الله تعالى منهم بأوليائه المؤمنين، ويجعل لهم الكرة عليهم، فلا يبقى منهم أحد إلا وهو (7) مغموم بالعذاب والنقمة والعقاب (8) وتصفو الأرض من الطغاة، ويكون الدين لله تعالى.
والرجعة إنما هي لممحضي الإيمان من أهل الملة وممحضي النفاق منهم دون من سلف من الأمم الخالية.
صفحة ٣٥
فصل:
شبهة في الرجعة، وقد قال قوم من المخالفين لنا: كيف (1) يعود كفار الملة بعد الموت إلى طغيانهم وقد عاينوا عذاب الله تعالى في البرزخ، وتيقنوا بذلك أنهم مبطلون؟!
فقلت لهم (2): ليس ذلك بأعجب من الكفار الذين يشاهدون في البرزخ ما يحل بهم من العذاب (3)، ويعلمونه ضرورة بعد المدافعة (4) لهم والاحتجاج عليهم بضلالهم في الدنيا (5)، فيقولون حينئذ: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " (6). فقال الله عز وجل: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " (7) فلم يبق للمخالف بعد هذا الاحتجاج شبهة يتعلق بها فيما ذكرناه، والمنة لله.
صفحة ٣٦
المسألة الثانية:
في الأشباح والذر والأرواح ما (1) قوله - أدام الله تأييده - في معنى الأخبار المروية عن الأئمة الهادية عليهم السلام في الأشباح، وخلق الله تعالى الأرواح قبل! خلقه (2) آدم عليه السلام بألفي (3) عام، وإخراج الذرية بن صلبه على صور الذر؟
ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف " (4)؟
الجواب:
وبالله التوفيق، إن الأخبار بذكر الأشباح تختلف ألفاظها وتتباين معانيها، وقد بنت الغلاة عليها أباطيل كثيرة، وصنفوا فيها كتبا لغوا فيها وهذوا (5) فيما أثبتوه منه في معانيها، وأضافوا ما حوته الكتب إلى جماعة من
صفحة ٣٧
شيوخ (1) أهل الحق وتخرصوا (2) الباطل بإضافتها (3) إليهم، من جملتها كتاب سموه: (كتاب الأشباح والأظلة) ونسبوا تأليفه (4) إلى محمد بن سنان (5).
ولسنا (6) نعلم صحة ما ذكروه في هذا الباب عنه، فإن (7) كان صحيحا فإن ابن سنان قد (8) طعن (9) عليه، وهو متهم بالغلو (10).
فإن صدقوا في إضافة هذا الكتاب إليه فهو ضال بضلاله (11) عن الحق، وإن كذبوا فقد تحملوا أوزار ذلك.
صفحة ٣٨
والصحيح من (1) حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثقات:
بأن آدم عليه السلام رأى على العرش أشباحا يلمع " (2) نورها، فسأل الله تعالى عنها، فأوحى (3) إليه: " أنها أشباح رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (4) صلوات الله عليهم " وأعلمه أن لولا الأشباح التي رآها (5) ما (6) خلقه ولا خلق سماء ولا أرضا (7).
والوجه فيما أظهره الله تعالى من الأشباح والصور لآدم عليه السلام أن دله (8) على تعظيمهم وتبجيلهم، وجعل ذلك إجلالا لهم ومقدمة لما (9) يفترضه (10) من طاعتهم، ودليلا على أن مصالح الدين والدنيا لا تتم إلا بهم.
ولم يكونوا في تلك الحال صورا محياة (11)، ولا أرواحا ناطقة، لكنها كانت صورا (12) على مثل صورهم في البشرية تدل (13) على ما يكونون عليه في
صفحة ٣٩
المستقبل من الهيئة، والنور الذي جعله عليهم يدل (1) على نور الدين بهم، وضياء الحق بحججهم.
وقد روي أن أسماءهم كانت مكتوبة إذ ذاك على العرش، وأن آدم عليه السلام (2) لما تاب إلى (3) الله عز وجل وناجاه بقبول (4) توبته سأله بحقهم عليه ومحلهم عنده (5) فأجابه.
وهذا غير منكر في العقول ولا مضاد للشرع المعقول، وقد رواه الصالحون (6) الثقات المأمونون، وسلم لروايته طائفة (7) الحق، ولا طريق (8) إلى إنكاره (9)، والله ولي التوفيق.
* * *
صفحة ٤٠
فصل:
البشارة بالنبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام، ومثل ما بشر به آدم عليه السلام من تأهيله (1) نبيه عليه وآله السلام لما أهله له، وتأهيل أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام لما أهلهم له، وفرض عليه تعظيمهم وإجلالهم، كما (2) بشر به في الكتب الأولى من بعثه (3) لنبينا صلى الله عليه وآله، فقال في - محكم كتابه: النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التورية والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون " (4).
وقوله تعالى مخبرا عن المسيح عليه السلام: ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " (5).
وقوله سبحانه: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب
صفحة ٤١
وحكمة ثم جائكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه " (1) يعني رسول الله صلى الله عليه وآله.
فحصلت البشائر به من الأنبياء (2) أجمعهم (3) قبل إخراجه إلى العالم بالوجود، وإنما أراد جل اسمه بذلك إجلاله وإعظامه، وأن يأخذ العهد له على الأنبياء والأمم (4) كلها، فلذلك أظهر لآدم عليه السلام صورة شخصه وأشخاص أهل بيته عليهم السلام، وأثبت أسماءهم له ليخبره بعاقبتهم (5) ويبين له عن محلهم عنده ومنزلتهم (6) لديه (7).
ولم يكونوا في تلك (8) الحال أحياء ناطقين ولا أرواحا مكلفين، وإنما كانت أشباحهم دالة " (9) عليهم حسب ما ذكرناه.
* * *
صفحة ٤٢
فصل:
البشارة بالنبي والأئمة في الكتب الأولى.
وقد بشر الله عز وجل بالنبي (1) والأئمة عليهم السلام في الكتب الأولى، فقال في بعض كتبه التي أنزلها على أنبيائه عليهم السلام، وأهل الكتب يقرونه (2)، واليهود والنصارى يعرفونه (3): أنه ناجى إبراهيم الخليل عليه السلام في مناجاته: " أني قد عظمتك وباركت عليك وعلى إسماعيل، وجعلت منه اثني عشر عظيما وكثرتهم (4) جدا جدا، وجعلت منهم شعبا (5) عظيما لأمة عظيمة " (6)، 7).
وأشباه ذلك كثير في كتب الله تعالى الأولى.
صفحة ٤٣
فصل:
حديث الذر أما الحديث في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام على صورة الذر، فقد جاء الحديث بذلك على اختلاف ألفاظه ومعانيه (1).
والصحيح أنه أخرج الذرية من ظهره كالذر فملأ بهم الأفق وجعل على بعضهم نورا لا يشوبه ظلمة، وعلى بعضهم ظلمة لا يشوبها نور، وعلى بعضهم نورا وظلمة، فلما رآهم آدم. عليه السلام عجب من كثرتهم وما (2) عليهم من النور والظلمة، فقال: يا رب، ما هؤلاء؟ " قال الله عز وجل له: " هؤلاء ذريتك " يريد تعريفه كثرتهم وامتلاء
صفحة ٤٤
الآفاق بهم، وأن نسله يكون في الكثرة كالذر الذي رآه ليعرفه قدرته، ويبشره باتصال (1) نسله وكثرتهم.
فقال آدم عليه السلام: " يا رب، ما لي أرى على بعضهم نورا لا ظلمة فيه (2)، وعلى بعضهم ظلمة لا يشوبها نور، وعلى بعضهم ظلمة ونورا؟، فقال تبارك وتعالى: " أما الذين عليهم النور منهم (3) بلا ظلمة فهم أصفيائي من (4) ولدك، الذين يطيعوني ولا يعصوني في شئ من أمري، فأولئك سكان الجنة.
وأما الذين عليهم ظلمة لا يشوبها نور فهم الكفار من ولدك الذين يعصوني ولا يطيعوني في شئ من أمري، فهؤلاء حطب جهنم (5).
وأما الذين عليهم نور وظلمة فأولئك الذين يطيعوني من ولدك ويعصوني، فيخلطون (6) أعمالهم السيئة بأعمال حسنة، فهؤلاء أمرهم إلي، إن شئت عذبتهم فبعدلي، وإن شئت عفوت عنهم فبفضلي ".
فأنبأه الله تعالى بما يكون من ولده، وشبههم بالذر الذي أخرجه (8) من ظفره، وجعله علامة على كثرة ولده.
صفحة ٤٥
ويحتمل أن يكون ما أخرجه من ظهره أصول (1) أجسام ذريته دون أرواحهم، وإنما فعل الله تعالى ذلك ليدل آدم عليه السلام على العاقبة منه، ويظهر له من قدرته وسلطانه وعجائب صنعه (2)، وأعلمه (3) بالكائن قبل كونه ليزداد آدم عليه السلام يقينا بربه، ويدعوه ذلك إلا التوفر على طاعته، والتمسك بأوامره، والاجتناب لزواجره (4).
فأما الأخبار التي جاءت بأن ذرية آدم عليه السلام استنطقوا في الذر فنطقوا، فأخذ عليهم العهد فأقروا، فهي من أخبار التناسخية (5)، وقد خلطوا فيها ومزجوا الحق بالباطل.
والمعتمد من إخراج الذرية ما ذكرناه - دون ما عداه - مما يستمر (6) القول به عك الأدلة العقلية والحجج السمعية، وإنما هو تخليط (7) لا يثبت به
صفحة ٤٦
أثر على (1) ما وصفناه.
فصل:
شبهة في إنطاق الذر فإن تعلق متعلق بقوله تبارك اسمه: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) * (2) فظن بظاهر فذا القول (3) تحقق ما رواه أهل التناسخ والحشوية (4) والعامة في إنطاق (6) الذرية وخطابهم، وأنهم كانوا أحياء ناطقين.
فالجواب عنه:
أن هذه الآية من المجاز في اللغة، كنظائرها (6) مما هو مجاز واستعارة،
صفحة ٤٧
والمعنى فيها: أن الله تبارك وتعالى أخذ من كل مكلف يخرج من ظهر (1) آدم، وظهور ذريته العهد عليه بربوبيته من حيث أكمل عقله ودله بآثار الصنعة على حدوثه (2)، وأن له محدثا أحدثه لا يشبهه (3)، يستحق العبادة منه بنعمه عليه " (4). فذلك هو أخذ العهد منهم (5)، وآثار الصنعة فيهم هو إشهاده (6) لهم على أنفسهم بأن الله تعالى ربهم.
وقوله تعالى: * (قالوا بلى) * يريد به أنهم لم يمتنعوا (7) من لزوم آثار الصنعة فيهم ودلائل حدوثهم اللازمة لهم، وحجة العقل عليهم في إثبات صانعهم (8)، فكأنه سبحانه لما ألزمهم الحجة بعقولهم على حدوثهم ووجود محدثهم قال لهم: * (ألست بربكم) *؟ فلما يقدروا على الامتناع من لزوم دلائل الحدوث لهم كانوا كالقائلين (9): بلى شهدنا.
وقوله تعالى: * (أن تقولوا يوم القيمة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) * (10).
صفحة ٤٨