مسائل منثورة في التفسير والعربية والمعاني
لابن بري المتوفى سنة ٥٨٢ هـ تحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن
[مقدمة المحقق] بسم الله الرّحمن الرّحيم المؤلف عبد الله أبي الوحش برّي بن عبد الجبار بن برّي المقدسي أصلا المصري مولدا الشافعي مذهبا. وكنيته أبو محمد، واشتهر بابن برّي: بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء المكسورة وبعدها ياء: اسم علم يشبه النسبة (١). ولد بمصر سنة ٤٩٩ هـ وطلب العلم منذ الخامسة عشرة من عمره، ونبغ في سنّ مبكرة فلفت إليه الأنظار حتى اختير ليتولى التصفح في ديوان الإنشاء وهو في الحادية والعشرين من عمره، فكان (لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملك من ملوك النواحي إلّا بعد أن يتصفحه ويصلح ما لعله فيه من خلل خفي) (٢). وقد ولي هذا العمل خلفا لمحمد بن بركات السعيدي المتوفّى سنة ٥٢٠ هـ الذي كان قد تولاه خلفا لابن بابشاذ المتوفّى سنة ٤٦٩ هـ. _________ (١) وفيات الأعيان ٣/ ١٠٩. وينظر: الأنساب ٢/ ١٩١، واللباب في تهذيب الأنساب ١/ ١٤٥. (٢) وفيات الأعيان ٣/ ١٠٨.
[مقدمة المحقق] بسم الله الرّحمن الرّحيم المؤلف عبد الله أبي الوحش برّي بن عبد الجبار بن برّي المقدسي أصلا المصري مولدا الشافعي مذهبا. وكنيته أبو محمد، واشتهر بابن برّي: بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء المكسورة وبعدها ياء: اسم علم يشبه النسبة (١). ولد بمصر سنة ٤٩٩ هـ وطلب العلم منذ الخامسة عشرة من عمره، ونبغ في سنّ مبكرة فلفت إليه الأنظار حتى اختير ليتولى التصفح في ديوان الإنشاء وهو في الحادية والعشرين من عمره، فكان (لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملك من ملوك النواحي إلّا بعد أن يتصفحه ويصلح ما لعله فيه من خلل خفي) (٢). وقد ولي هذا العمل خلفا لمحمد بن بركات السعيدي المتوفّى سنة ٥٢٠ هـ الذي كان قد تولاه خلفا لابن بابشاذ المتوفّى سنة ٤٦٩ هـ. _________ (١) وفيات الأعيان ٣/ ١٠٩. وينظر: الأنساب ٢/ ١٩١، واللباب في تهذيب الأنساب ١/ ١٤٥. (٢) وفيات الأعيان ٣/ ١٠٨.
1 / 1
وتوفي ابن برّي سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة في عهد صلاح الدين الأيوبي (١).
شيوخه:
- علي بن جعفر بن علي المعروف بابن القطاع المتوفّى سنة ٥١٥ هـ.
- مرشد بن يحيى المديني المتوفّى سنة ٥١٧ هـ.
- محمد بن بركات بن هلال السعيدي المتوفّى سنة ٥٢٠ هـ.
- محمد بن أحمد الرازي المعروف بابن الحطّاب المتوفّى سنة ٥٢٥ هـ.
- محمد بن عبد الملك الشنتريني المعروف بابن السراج المتوفّى سنة ٥٤٥ هـ.
- محمد بن حمزة بن أحمد المعروف بابن العرقي المتوفّى سنة ٥٥٧ هـ.
- أحمد بن عبد الله بن أحمد بن الحطيئة المتوفّى سنة ٥٦٠ هـ.
- عبد الجبار بن محمد بن علي المعافري المتوفّى سنة ٥٦٦ هـ.
- علي بن عبد الرحيم السلمي المعروف بابن العصار المتوفّى سنة ٥٧٦ هـ.
_________
(١) ينظر عن ابن بري المصادر الآتية، وهي مرتبة ترتيبا تاريخيا:
معجم الأدباء ١٢/ ٥٦.
إنباه الرواة ٢/ ١١٠.
التكملة لوفيات النقلة ١/ ٥٨.
وفيات الأعيان ٣/ ١٠٨.
إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين ١٦١.
سير أعلام النبلاء ٢١/ ١٣٦.
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ٧/ ٢٤٥.
الوافي بالوفيات ١٧/ ٨٠.
مرآة الجنان ٣/ ٤٢٤.
طبقات الشافعية للسبكي ٧/ ١٢١.
طبقات الشافعية للاسنوي ١/ ٢٦٧.
البلغة في تاريخ أئمة اللغة ١٠٦.
بغية الوعاة ٢/ ٣٤.
شذرات الذهب ٤/ ٢٧٣.
1 / 2
- عثمان بن علي بن عمر السرقوسي الصقلي المتوفّى بعد سنة ٥٧٦ هـ.
- علي بن عبد الرحمن بن محمد الحضرمي.
تلاميذه:
درس على ابن برّي وروى عنه علماء كثيرون من لغويين ونحويين وقرّاء ومفسرين
ومحدثين، واستفادت من علمه الأسرة الأيوبية، وسأكتفي بالإشارة إلى المشهورين منهم:
- أبو المحاسن مهلب بن الحسن البهنسي المصري المتوفّى سنة ٥٧٢ هـ.
- أبو الجيوش عساكر بن علي الصوري المقرئ النحوي المتوفّى سنة ٥٨١ هـ.
- عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الفقيه الحافظ المتوفّى سنة ٦٠٠ هـ.
- هبة الله بن جعفر بن سناء الملك القاضي المتوفّى سنة ٦٠٨ هـ.
- عيسى بن عبد العزيز الجزولي النحوي المتوفّى نحو سنة ٦١٠ هـ.
- أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي النحوي الأديب المتوفّى سنة ٦١٣ هـ.
- سليمان بن بنين بن خلف الدقيقي النحوي المتوفّى سنة ٦١٤ هـ.
- عبد الخالق بن صالح المسكي النحوي المتوفّى سنة ٦١٤ هـ.
- أبو محمد عبد المنعم بن صالح النحوي المعروف بالإسكندراني المتوفّى سنة ٦٣٣ هـ.
- علي بن هبة الله بن سلامة المصري الفقيه المقرئ المتوفّى سنة ٦٤٩ هـ.
وممن أخذ عنه من الأسرة الأيوبية:
- الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، ت ٥٨٩ هـ.
- الملك العزيز عماد الدين عثمان بن صلاح الدين الأيوبي، ت ٥٩٥ هـ.
- الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، ت ٦١٣ هـ.
- الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين الأيوبي، ت ٦٢٢ هـ.
- الملك الظافر مظفر الدين الخضر بن صلاح الدين الأيوبي، ت ٦٢٧ هـ.
- الملك الأعز يعقوب بن صلاح الدين الأيوبي، ت ٦٢٧ هـ.
1 / 3
- الملك المفضّل قطب الدين موسى بن صلاح الدين الأيوبي، ت ٦٣١ هـ.
- الملك الزاهر داود بن صلاح الدين الأيوبي، ت ٦٣٢ هـ.
- الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل محمد بن أيوب، ت ٦٣٥ هـ.
- الملك المجاهد شير كوه بن محمد بن أسد الدين شير كوه بن شادي الأيوبي، ت ٦٣٧ هـ (١).
مؤلفاته المطبوعة:
١ - التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح.
٢ - حاشية على تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة للجواليقي.
٣ - حاشية على المعرّب.
٤ - شرح شواهد الإيضاح.
٥ - غلط الضعفاء من الفقهاء.
٦ - اللباب في الردّ على ابن الخشاب.
٧ - مسألة في جمع حاجة: منشورة في الأشباه والنظائر للسيوطي.
المخطوطة:
١ - حاشية على درة الغواص.
٢ - رسالة في لو الامتناع: انتهينا من تحقيقها.
٣ - فصل في شروط الحال وأحكامها وأقسامها: انتهينا من تحقيقه.
٤ - مسائل سئل عنها: انتهينا من تحقيقها.
٥ - مسائل منثورة في التفسير والعربية والمعاني: وهو هذا الكتاب وسيأتي الحديث عنه.
المؤلفات التي لم نقف عليها:
١ - الاختيار في اختلاف أئمة الأمصار.
_________
(١) ينظر: ابن بري وجهوده اللغوية ٧٠ - ٩١، ففيه إحصاء شامل لتلاميذه.
1 / 4
٢ - جواب المسائل العشر، وهي المسائل التي سأل عنها أبو نزار الملقب بملك النحاة: نقل عنه البغدادي في خزانة الأدب.
٣ - حاشية على المؤتلف والمختلف: نقل عنه البغدادي في خزانة الأدب.
٤ - شرح أدب الكاتب: ذكره البغدادي في خزانة الأدب.
٥ - الفروق: نقل عنه الزّبيدي في تاج العروس.
قصيدتان نسبتا إليه غلطا:
١ - القصيدة الخالية: نسبها إليه مصطفى حجازي في مقدمة التنبيه والإيضاح. وهو وهم، لأنّ هذه القصيدة رواها ثعلب المتوفّى سنة ٢٩١ هـ، وهي في مراتب النحويين والصناعتين.
٢ - القصيدة الحالية: نسبها إليه مصطفى حجازي في مقدمة التنبيه والإيضاح اعتمادا على لسان العرب (حول)، وهذه النسبة غير قاطعة فقد جاء في اللسان: قال ابن برّي:
وهذه أبيات تجمع معاني الحال.
رأي العلماء فيه:
قال القفطي في إنباه الرواة: كان جمّ الفوائد، كثير الاطلاع، عالما بكتاب سيبويه وعلله، وبغيره من الكتب النحوية، قيّما باللغة وشواهدها.
وقال أيضا: وكانت كتبه في غاية الصحة والجودة، وإذا حشاها أتى بكلّ فائدة، ورئي جماعة من تلاميذه متصدرين متميزين. وأكثر الرؤساء بمصر استفادوا منه وأخذوا عنه.
وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان: الإمام المشهور في علم النحو واللغة والرواية والدراية. كان علّامة عصره، وحافظ وقته، ونادرة دهره.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: الإمام العلّامة، نحويّ وقته.
وقال ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: قرأ على مشايخ زمانه وانفرد بهذا الشأن وقصده الطلبة من الآفاق، وكان عالما بكتاب
1 / 5
سيبويه وعلله قيّما باللغة وشواهدها. وكان إليه التصفح في ديوان الإنشاء، لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملوك النواحي إلّا بعد أن يتصفحه ويصلح ما فيه من خلل خفي.
وقال الصفدي في الوافي بالوفيات: كانت عنايته تامّة في تصحيح الكتب، وكتب الحواشي عليها بأحمر، فإذا رأيت كتابا قد ملكه فهو الغاية في الصحة والإتقان.
وقال ابن قاضي شهبة في طبقات النحاة واللغويين: كان قيّما بكتاب سيبويه وعلله، قيّما باللغة والشواهد. وكان مقدّما في اللغة والعربية، شائع الذكر، مشهورا بالعلم، لم يكن في زمانه مثله.
وقال ابن حجر في تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: وشيخ العربية بمصر أبو محمد عبد الله بن بري مشهور.
وقال السيوطي في بغية الوعاة: شاع ذكره واشتهر، ولم يكن في الديار المصرية مثله ... وكان قيّما بالنحو واللغة والشواهد، ثقة.
1 / 6
الكتاب
تناول ابن برّي في هذا الكتاب مسائل في العربية والتفسير والمعاني وبلغت هذه المسائل ثماني وثلاثين مسألة أورد فيها آيات قرآنية كريمة مبيّنا ما فيها من إعراب وتفسير وقراءات وأجاب على ما يشكل منها عند الدارسين.
واعتمد المؤلف شرحه لهذه الآيات على أقوال العلماء الذين سبقوه وقد ذكر منهم:
مقاتل بن سليمان وسيبويه والكسائي وأبا إسحاق الزجاج والزمخشري.
ولم يستشهد ابن بري إلّا ببيت واحد من الشعر للكميت بن زيد.
وهذه المسائل أثر نادر من آثار ابن برّي كنت أسعى للحصول عليها منذ أكثر من عشر سنوات إلى أن هيّأ الله، ﷿، الأخ الدكتور حسين تورال الذي تفضل فوافاني بصورتها، فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء.
ومخطوطة الكتاب نسخة فريدة تقع ضمن مجموع رقمه ٢٧٤٠ وتحتفظ بها مكتبة شهيد علي في تركيا.
ويقع هذا المجموع في ٥٦ ورقة، في كل ورقة صفحتان، وفي كلّ صفحة ١٥ سطرا.
وقد شغلت هذه المسائل الأوراق ١ ب- ١٢ أ.
وكتب المجموع بخط واضح مقروء، وتاريخ نسخه سنة ٧٠٠ هـ كما جاء في وجه الورقة ٣٣.
وقد أرفقت بنشرتي هذه صورا لعنوان المجموع وللصفحتين الأولى والأخيرة.
وأخيرا أرجو أن أكون قد أسديت خدمة للغة القرآن الكريم والحمد لله أوّلا وآخرا.
1 / 7
صفحة العنوان
1 / 8
الصفحة الأولى
1 / 9
الصفحة الأخيرة
1 / 10
بسم الله الرّحمن الرّحيم
اللهمّ صلّ على محمد وسلّم عليه تسليما
الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده، وأشهد أنّ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، ﷺ، وعلى آله وصحبه، وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.
قال الشيخ الإمام العالم العامل السيد الكبير والحبر الأثير، لسان الأدب وحجة العرب جمال الدين بن برّي، ﵀:
مسألة
قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ (١).
ما معنى التكرير في هذه الآية؟ وهل يجوز أن تنوب (أو) هنا مناب الواو أم لا؟
الجواب:
إنّ (أو) لا تقع هاهنا موقع الواو لأنّ هذا إنّما جاء على البدل، كأنّه قال سبحانه:
ثلاث بدل من ثناء، ورباع بدل من ثلاث.
فلو قيل ب (أو) لجاز ألّا تكون الثلاث بدلا من الثناء، وأن لا يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع، وإنّما جاء هذا بالواو على جهة الحصر لما يحلّ من نكاح النساء من غير زيادة، كما تقول: ادخلوا عليّ ثناء وثلاث ورباع. أي: أبحت لكم
(٢ أ) أن تدخلوا على هذه العدة لا زيادة عليها، فإن شئتم فادخلوا اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، ولا تزيدوا على ذلك.
_________
(١) النساء ٣. وينظر في الآية: معاني القرآن للفراء ١/ ٢٥٤. ومعاني القرآن وإعرابه ٢/ ٨، ومشكل إعراب القرآن ١٨٩، والتبيان ٣٢٨، والدر المصون ٣/ ٥٦١.
1 / 11
وعلى هذا قوله: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها (١). فجاء بالواو لحصر عدّة المستحقين للصدقة: للفقراء والمساكين والعاملين، إلى تمام الأصناف الثمانية من غير زيادة. وكذلك المحلّ لكم من نكاح النساء من جهة الأعداد، مثنى وثلاث ورباع من غير زيادة على ذلك، إلّا أنّه يجوز في آية الصدقات أن تدفع صدقة لأحد الأصناف الثمانية، ولا يجوز أن يجمع بين هذه الأقسام الثمانية من العدد من جهة أنّ الأبدال المعدولة في العدد لا يكون معناها إلّا على الانفراد وإن حصل فيها العطف بالواو كما مثّلت أوّلا فيما تقدّم من قول القائل: ادخلوا عليّ ثناء وثلاث ورباع، أي: اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، ولم يرد الجمع بينها كلّها، ولم يرد (٢ ب) ادخلوا عليّ تسعة تسعة.
ولو كان المعطوف يقضي الأمر فيه أن يكون بدلا من المعطوف عليه فتكون الثلاثة بدلا من الاثنين، والأربعة بدلا من الثلاثة لوجب مثل ذلك في قوله سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها فتكون الصدقة للمساكين بدلا من الفقراء، والصدقة للعاملين عليها بدلا من المساكين، وليس الأمر كذلك.
وإنّما يجيء مثل هذا بالواو في كلام العرب على جهة الحصر للأصناف المعدودة، أي المستحقين للصدقة: الفقراء والمساكين والعاملين عليها، إلى انتهاء الأصناف الثمانية من غير زيادة، فمن وجد منهم دفعت إليه الصدقة. وهذا كما تقول:
كنت آكل في بلدي اللحم والتمر والزيت والسمن والعسل، فحصر أصناف ما يأكله، ولم يرد أنّه كان يجمع بين هذه كلّها في أكلة.
وكذلك قوله سبحانه: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، أي: لينكح كلّ (٣ أ) منكم مثنى وثلاث ورباع من غير
_________
(١) التوبة ٦٠ وتمامها: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ..
1 / 12
زيادة على ذلك. أي الذي أحلّ لكم من نكاح النساء هذه الأقسام الثلاثة: مثنى وثلاث ورباع من غير زيادة على ذلك، كما تقول كل الرطب أحاد ومثنى وثلاث، أي: كل هذا الرطب واحدة واحدة واثنتين اثنتين
وثلاثة ثلاثة.
ولو أتى ب (أو) في هذه العدّة وقال: كل مثنى أو ثلاث أو رباع، لكان جائزا ولا يلزم ما ذكره في الآية من أنّه لو أتى ب (أو) عوضا من الواو لجاز ألّا يكون لصاحب مثنى ثلاث، لأنّ هذا الخطاب وإن كان لجماعة فإنّما يراد به واحد واحد، كما قال سبحانه:
يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا (١) أي: يخرج كلّا منكم طفلا، فإذا كان الواحد هو المأمور بذلك فلا يصحّ أن يقال: إنّه لا يكون لصاحب المثنى ثلاث، لأنّ صاحب المثنى هو صاحب الثلاث والرباع.
هذا ما ذكره شيخنا الإمام العلامة ابن برّي، ﵀.
وأمّا ما ذكره الزمخشريّ (٣ ب) في الكشاف (٢) فهو أنّه قال: اعلم أنّ معنى التكرير في قوله سبحانه: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أنّ الخطاب للجميع يوجب التكرير ليصيب كلّ ناكح (٣) يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلقه (٤)، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم: درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى، وجاء العطف بالواو دون (أو)، كما جاء بالواو في المثال الذي ذكرته لك. ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثة ثلاثة أو
_________
(١) غافر ٦٧.
(٢) الكشاف ١/ ٤٩٧. والزيادة منه. ويلاحظ أن الكلام لأحد تلامذة ابن بري.
(٣) بعدها في الأصل: من الجمع. وليست في الكشاف.
(٤) في الكشاف: أطلق له.
1 / 13
أربعة أربعة علمت (١) أنه لا يسوغ لهم إلّا أن يقتسموا (٢) على أحد [أنواع] هذه القسمة. وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع ولذهب (٣) معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة التي دلّت عليها الواو. وتحريره أنّ الواو دلّت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على (٤ أ) طريق الجمع، إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاءوا متفقين [فيها] محظورا عليهم ما وراء ذلك.
هذا ما ذكره الزمخشريّ.
وقد وهم بعض الناس في تأويل هذه الآية فجعله دليلا على جواز التزويج بتسع نسوة على الجمع، وأجراه مجرى اثنين وثلاثة وأربعة، وليس كذلك، لأنّ المعنى:
فانكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين اثنتين، وإن شئتم ثلاثا ثلاثا، وإن شئتم أربعا أربعا.
ولو كان هذا محمولا على ظاهره لقيل: تسع، عوض من ثلاثة أشياء، لأنّ الإيجاز تقليل الكلام من غير إخلال، وإذا كان المعنى يمكن أن يعبّر عنه بألفاظ قليلة، ويعبّر عنه بألفاظ كثيرة، فالألفاظ القليلة إيجاز، فقول القائل: لي عند زيد عشرة، أوجز وأخصر من قوله:
لي عنده خمسة وثلاثة واثنان، في موضع: لي عنده عشرة.
وبلاغة القرآن أعلى طبقات البلاغة إذ هو معجز.
وقد قال بعض العلماء (٤): البلاغة إيصال المعنى إلى القلب (٤ ب) في أحسن صورة من اللفظ. فأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن، ولم يبح التزويج بتسع إلّا لرسول الله ﷺ، فإنّه أبيح له الجمع بين هذا العدد، وهو أحد خصائصه، ﵇.
_________
(١) من الكشاف، وفي الأصل: لأعلمت.
(٢) الكشاف: يقتسموه.
(٣) الكشاف: وذهب.
(٤) مواد البيان ٢/ ١٣٢.
1 / 14
وإعرابها:
الفاء جواب الشرط في قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ.
وما طابَ لَكُمْ: (ما) في موضع نصب ب (انكحوا).
ومِنَ النِّساءِ: متعلّق ب (انكحوا).
و(ما) يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون خبرية بمعنى (الذي)، و(طاب) صلتها، و(لكم) متعلّق ب (طاب)، وهي على تقدير الصفة، لأنّ (ما) إذا كانت صفة صلحت لمن يعقل، ثمّ تقام الصفة مقام
الموصوف. وقال بعض النحويين: المؤنث من العقلاء يجري مجرى ما لا يعقل.
والثاني: أن تقدّر (ما) تقدير المصدر، أي: فانكحوا الطيّب من النّساء، وهذا على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. أي: فانكحوا ذوات الطيّب لكم، أي:
ذوات الحلّ لكم، لأنّ معنى قوله سبحانه: ما طابَ لَكُمْ، أي: (٥ أ) ما حلّ لكم، ثمّ حذف المضاف.
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: في موضع نصب على البدل من (ما). ويجوز أن يكنّ في موضع الحال من (ما)، لأنّها بمعنى (الذي).
واختلف في العلّة المانعة لهذه الأسماء من الصرف. قيل: المانع لصرفها الصفة والعدل، وقيل: العدل والجمع. وهذا العدل، أعني عدل النكرة عن النكرة، مختص بالعدد. والمسموع عن العرب العدل من واحد إلى أربعة، كما جاء في القرآن. وربّما جاء فيما دون ذلك نادرا.
قال الكميت (١):
فلم يستريثوك حتى رمي ... ت فوق الرجال خصالا عشارا (١١)
_________
(١) شعره: ١/ ١٩١. وينظر: مجاز القرآن ١/ ١١٦.
1 / 15
وهذا النوع لا ينصرف في معرفة ولا نكرة.
والله أعلم بالصواب
سؤال
ما الحكمة من قوله في سورة الأنعام: أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ (١) بحذف الباء. وقال في سورة ن والقلم (٢) بإثباته (٣)؟
فالجواب:
لأنّ ما (٥ ب) في سورة الأنعام معناه: يعلم أيّهم يطيعه، من قوله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (٤).
وما في القلم معناه: أعلم بما كان وبما يكون من أحوال من ضلّ، بدليل قوله:
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بأيّيكم المفتون (٦) (٥).
سؤال
ما الحكمة في قوله ﷿ في سورة الأنعام: فَسَوْفَ (٦)، وكذلك في الزّمر (٧). وقال في سورة هود: سَوْفَ (٨)؟
_________
(١) الأنعام ١١٧. وينظر: مشكل إعراب القرآن ٢٦٦، والدر المصون ٥/ ١٢٦.
(٢) آية ٧ وهي: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
(٣) أي: بإثبات الباء. وينظر: فتح الرّحمن بكشف ما يلتبس في القرآن ١٧٤ - ١٧٥.
(٤) الأنعام ١١٦.
(٥) القلم ٥ و٦.
(٦) الأنعام ١٣٥: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ .... وينظر: فتح الرحمن ١٧٧.
(٧) الزمر ٣٩: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
(٨) هود ٩٣: وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ....
1 / 16
فالجواب:
لأنّه تقدّم في السورتين بأن أمرهم أمر وعيد بقوله: اعْمَلُوا أي: اعملوا فستجزون. ولم يكن في هود (قل) فصار استئنافا.
مسألة
قوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ (١).
قيل: ظاهره: ما نفعله بالجوارح، وباطنه: ما نفعله بالقلب.
مسألة
قوله، ﷿: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ (٢).
إنّما قدّم ذكر الأكل لأمرين:
أحدهما: تسهيلا لإيتاء حقّه.
والثاني: تغليبا لحقّهم وافتتاحا بنفعهم بأموالهم.
مسألة
ما الحكمة في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ (٣) [ختمها] في أوّل السورة بقوله: فَقَدِ افْتَرى إِثْمًا عَظِيمًا. وقال في آخرها: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا (٤)؟
_________
(١) الأنعام ١٢٠. وينظر: تفسير الطبري ٨/ ١٣، وتفسير القرطبي ٧/ ٧٤.
(٢) الأنعام ١٤١. وينظر: تفسير الطبري ٨/ ٥٢، وتفسير القرطبي ٧/ ٩٩.
(٣) النّساء ٤٨: ... وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْمًا عَظِيمًا.
(٤) النّساء ١١٦: ... وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا.
وينظر في الآيتين: فتح الرحمن ١١٥ - ١١٦.
1 / 17
فالجواب:
لأنّ الآية الأولى في اليهود (٦ أ) وهم عرفوا صحة نبوة محمد ﷺ، من التوراة فكذّبوا وافتروا على الله ما لم يكن في كتابهم.
والثانية نزلت في مشركي العرب، فلم يكن عندهم كتاب فيرجعوا إليه، فكان ضلالهم أشدّ وبعدهم عن الرشاد أتمّ وإن كانوا كلّهم ضلّالا مفترين.
سؤال
ما الحكمة في قوله في سورة النّساء: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا (١) وقال في الأحزاب:
شَيْئًا (٢)؟
فالجواب:
لأنّ ما في سورة النساء وقع في مقابلة السوء المذكور في قوله: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ (٣)، فاقتضت المقابلة أن يكون بإزاء السوء الخير.
وأمّا في الأحزاب فوقع بعد قوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ (٤)، فاقتضى العموم، و(شيء) من أعمّ العموم.
مسألة
إن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى: إِذا أَثْمَرَ (٥) وقد علم أنّه إذا لم يثمر لم يؤكل منه؟
_________
(١) آية ١٤٩.
(٢) آية ٥٤: إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا.
(٣) النساء ١٤٨.
(٤) الأحزاب ٥١.
(٥) الأنعام ١٤١: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ. وينظر: فتح الرّحمن ١٧٨.
1 / 18
فالجواب:
وذلك لمّا أبيح لهم الأكل من ثمره قيل: إذا أثمر، ليعلم أنّ وقت الإباحة وقت اطلاع الشجر الثمر لئلا يتوهم أنّه لا يباح إلّا إذا أثمر وأينع.
مسألة
إن قيل: لم (٦ ب) قدّم الشكر على الإيمان (١)؟
فالجواب:
وذلك أنّ العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكرا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة النّعم آمن به ثمّ شكر شكرا مفصّلا، فكان الشكر متقدّما على الإيمان، وكأنّه أصل التكليف ومداره.
مسألة
قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ (٢).
ليس (جعل) هاهنا بمعنى (صيّر)، لأنّ ذلك يقتضي حالة سابقة نقل الشيء عنها إلى حالة أخرى، ولا الذي بمعنى (حكم)، ولا بدّ من أحد التقديرين، أحدهما: وجعلنا الشمس والقمر فيهما آيتين.
مسألة
قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى (٦) (٣).
_________
(١) في قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ... الآية ١٤٧ من سورة النساء. وينظر:
تفسير الرازي ١١/ ٩٠.
(٢) الإسراء ١٢.
(٣) الضحى ٦.
1 / 19
قيل: وجدك عديم النظير من الدرّ اليتيم فآواك إلى كرامته، واصطفاك لرسالته.
سؤال
[لم] قال في الأنعام: أَلَمْ يَرَوْا (١). وقال في غيرها: أَوَلَمْ (٢)؟
فالجواب:
وذلك ما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة ذكره بالألف وواو العطف أو فائه (٣). وما كان الاعتبار فيه بالاستدلال (٧ أ) ذكر بالألف وحده. ولا ينقض هذا الأصل قوله: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ (٤)، لاتصالها بقوله: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ الآية (٥)، وسبيلها الاعتبار بالاستدلال فبنى: أَوَلَمْ يَرَوْا عليه.
مسألة
قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ (٦).
في معناه ثلاثة أوجه:
أحدها: نعمتم.
_________
(١) الأنعام ٦. وينظر: فتح الرّحمن ١٥٩.
(٢) الرعد ٤١ وآيات أخرى. ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ٢٨٤.
(٣) كقوله تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ... سبأ ٩.
(٤) النحل ٧٩. وفي الأصل: أو لم.
(٥) النحل ٧٨.
(٦) الزمر ٧٣. وينظر: زاد المسير ٧/ ٢٠١.
1 / 20