مقدمة المريض الصامت
أيتها الفتاة
الملك الصامت
المريض العاشق
أم المريض
أخت المريض
رؤيا في حلم
هذيان في الظلام
أمام الفجر
رعشة في الظلمة
ليلة عصيبة
على القبر
مقدمة المريض الصامت
أيتها الفتاة
الملك الصامت
المريض العاشق
أم المريض
أخت المريض
رؤيا في حلم
هذيان في الظلام
أمام الفجر
رعشة في الظلمة
ليلة عصيبة
على القبر
المريض الصامت
المريض الصامت
تأليف
إلياس أبو شبكة
مقدمة المريض الصامت
أيها القارئ
إن ما تقرأ في هذه الصفحات لهو حقيقة أليمة نطقت بها الروح المتألمة في ليلة من ليالي الأرق، وألبسها القلم رداء شفافا من أرديته الحمر. في كل شطر من أشطارها نقاط من الدم ما تزال ندية، وفي كل مقطع من مقاطعها مشهد من مشاهد الألم ما يبرح نصب العين. ليس عهد «المريض الصامت» ببعيد، فتراب القبر لما يجف بعد على جسده الطاهر، وتذكاره الموجع ما فتئ يرود في مخيلة عارفيه.
إلياس أبو شبكة
أيتها الفتاة
إن الروح التي تلامسين خلال هذه السطور إنما هي صورة مكبرة لروحك الحساسة. والخيال الصادق الذي تستشفين إنما هو رمز ناطق لخيالك السامي الشريف. فتقبلي هذه القطعة الدامية تذكارا لحبنا المدمى، فأنت أحق بها من سواك؛ لأنك أوحيتها بلفظة ملؤها الشعور، خرجت من بين شفتيك في ساعة من ساعات حب جريح. أسأل الله أن يختم عليه بلطفه ورحمته، إنه أرحم الراحمين.
الملك الصامت
شاعر القلب ضاق عنه البيان
والقوافي واللفظ والأوزان
صامت يرسل التنهد شعرا
كلما هز قلبه خفقان
تقرأ الوحي في عذوبة عيني
ه فآيات عينه قرآن
نفسه جذوة من الله لم تد
نس فتمحو نقاءها الأضغان
فهو في موكب الحياة حكيم
وهو في مركب الدجى ربان
يجد التائهون فيه عزاء
وأمانا إذا تلاشى الأمان
لقنته الأيام موعظة النا
ر فثارت في صدره النيران
غير أن السماء قالت له: «اصمت»
انظروا كيف يصمت البركان
شيدت قصر وحيه الأشجان
وطلاه من الدموع دهان
زاهد في الحياة، في بردتيه
جسد شفه الضنى جوعان
ملك، عرشه المصائب والهم
وياقوت تاجه الأحزان
صولجان الآلام في قبضتيه
ويح ملك آلامه الصولجان
لجرير في روحه شهقات
ولقيس في قلبه تحنان
وبقايا من المعري تمشت
في دماه لم تمحها الأزمان
المريض العاشق
في ربيع الحياة، حلو الخصال
طيب الخلق واسع الآمال
أوشكت صورة الألوهة أن تك
مل فيه لولا اعتراض الزوال
قلبه قلب ربه، حين يقري
يطعم اليتم قلبه، لا يبالي
في حناياه للفقير حنو
وحنين لآية في الجمال
لفتاة تبكي على شاطئ الني
ل، وراء النخيل، فوق الرمال
لفتاة عذراء لم تدر لولا
ه معاني العذاب والأهوال
لفتاة أحبها وأحبت
ه فعاش القلبان بعض ليال
في ربيع الحياة يقضمه الدا
ء، وللداء قسمة في الرجال
صامت يسأل الرؤى في سرير
يتخطى به إلى الآجال
عرف الموت قبل أن ينتحيه
فإذا الموت منفذ للكمال
فاصطفاه خلا له، وكثيرا
ما تمناه، في الليالي الخوالي
صامت، إنما المحدق فيه
يتراءى له وميض خيال
فكرة من خلال عينيه تبدو
غلفتها شفافة من جلال
يا جلال النفوس، أنت من الخل
د ولو كنت في غلاف بال
أم المريض
أي داء يشفه، أي داء
يا إلهي، يا منقذ الأبرياء
أي داء يشفه، فعلى عي
نيه طيف ذو جبهة سوداء
كل ليل، يمر يسلب منه
زهرات تعهدتها دمائي
قيل لي: إنه سيشفى، ولكن
مقلتاه توارتا في غشاء
في غشاء يشف عن بعض روح
ليس فيه للأم بعض رجاء
لونه أمس غيره اليوم، إن ال
داء يمحو عنه جمال الفتاء
رب رحماك! لا تذل فؤادي
بحبيبي، ولا تجهم مسائي
رب، لا تضرب الحزينة بالثك
ل ولا تبلني بهذا البلاء
لا تدعني - يا رب - أحمل أوجا
عي أمام الباقين من أبنائي
لا تلطخ باليأس بيض شعوري
يا عزاء الأمومة البيضاء
وأصاخت حينا لتسمع صوت الله
والله معرض في السماء
فكأن السما بناء نحاس
وكأن الظلام عرش قضاء
وكأن النجوم في شرفة اللي
ل شموع الأكفان للأحياء
وعيون المريض تزداد نزعا
كلما ازداد روحه في الضياء
أخت المريض
تسأل الغيب أن يريها المصيرا
وتوالي بكاءها والزفيرا
تستغيث الإله حينا، فلا تس
مع صوتا، فتستغيث النذورا
وإذا خيم الدجى سألته
بعض نور، فلا ترى فيه نورا
تستعين الرجا، فيبدو لها اليأ
س كأن الرجاء باع الضميرا
أيبس الليل في نقاوة خدي
ها بحر الأنين، تلك الزهورا
كلما أطلق المريض زفيرا
خشيت منه أن يكون الأخيرا
حجبت حزنها وراء ابتساما
ت لتخفي عن أمها المقدورا
وكذا الأم بالتبسم كانت
تحجب الحزن عن بنيها شهورا
غير أن الفتى تجاهل إيها
ما فأعطى الآلام قلبا كبيرا
أنكر النوم مقلة الأخت حتى
آلفت رهبة الدجى والسريرا
لم تحول عنه النواظر إلا
عندما أوشك الأسى أن يثورا
أي قلب أشد من قلب أخت
في أشد الآلام ظل صبورا؟
أي روح أرق من روح أخت
تهب الجهد، لا تبالي العسيرا؟
أي صدر أحن من صدر أخت
في ليالي الأسى، وأسمى شعورا؟
رؤيا في حلم
حمل الداء من شواطئ مصرا
وأتى زحلة فصادف قبرا
لم ترعه طيوف بلواه لو لم
تختلج في هواه أطهر ذكرى
حين يهوي الدجى يمر به الأم
س على جانحيه يحمل جمرا
أي جمر أحر من جمر حب
صادف القلب موقدا فاستقرا
إن غفا مرت الفتاة برؤيا
ه تنادي ربا، وتلطم صدرا
تارة تفجر الدموع، وطورا
تمسك الدمع في المحاجر قسرا
تتخطى أمام قبر جديد
نثرت فوقه دموعا وزهرا
بدل الحزن وجهها، فهو لم يب
ق كما كان يهرق الحسن سحرا
وإذا ما استفاق حدق في الظل
مة حينا كمن توقع أمرا •••
وأجال العيون، في الغرفة السو
داء، عل الظلام يكشف سرا
ثم أصغى لنغمة في حنايا
ه تلوى لذكرها واقشعرا
وهو يدري أن الرؤى أيقظته
من شجون إلى شجون أخرى
ذات ليل أحس في رئتيه
خلجة مرة فخفقا أمرا
وتراءت له فتاة هواه
شبحا داميا، فأوجس ذعرا
هذيان في الظلام
عند ذا هب جالسا وتهيا
ليناجي غرامه العذريا
وحفيف الصفصاف يهمس في النه
ر كلاما عن الحياة خفيا!
قال: أصغي إلي، إني فان
فالقوى لن تعود بعد إليا
أنا أمشي إلى الضريح حثيثا
فعذابي يثور في رئتيا
أي نفع ترجينه يا عروسي
من بكاء ما عاد ينفع شيا؟
أي نفع، والموت ينسج ثوبي
بخيوط الظلام من مقلتيا
إرجعي، إرجعي فتذكار حبي
وليالي، بات ثقلا عليا
إرجعي، إنني بليت وما أص
بح غير الديدان يرغب فيا!
في شواطي النيل السعيد مياه
فاسأليها غدا زلالا شهيا
واستعيدي به هوى وشبابا «نيلك» العذب غير «بردونيا»
وإذا ما مررت تحت نخيل ال
نهر يوما حيث ابتسمنا مليا
حيث كنا نبني قصور الأماني
حيث كنا نجني الشباب النديا
حيث كنا نلقن القلب درسا
فيعيه النخيل من شفتيا
فاحذري وقفة هناك لئلا
تسمعي من فم النخيل نعيا
أمام الفجر
واستفاق المريض من هذيانه
ولهيب النيران في أجفانه
وحمات الأوجاع تنزع منه
ما تبقى من عمره في جنانه
وأمر البنان يسترجع الرش
د على أصغر نبا عن مكانه
إنما الأصغر الذي نهكته
حمة الداء ضل في خفقانه •••
وأتى الفجر فوق عرش من النو
ر تسير الكروم في ركبانه
وخيوط الضباب تنسج أعلا
ما لوتها الصبا على صولجانه
فأطل المريض من شرفة البي
ت يناجي الصباح في مهرجانه
فإذا بالصباح يحمل رمزا
أسود الوجه جاء قبل أوانه
وطفت مقلتاه فوق مياه ال
نهر، والنهر سائر في أمانه
فتراءى له المصير قريبا
شف عنه الزلال في جريانه
وتراءى له ضريح رخام
رقدت زهرة على جدرانه
زهرة حين ضل عنها نداها
ضل عنها الشباب في ريعانه
وتراءى له على صفحة الما
ء سطور مسودة، كزمانه
أفصحت عن نبوءة تممتها
نزوات المساء في إبانه
رعشة في الظلمة
أيتها الفتاة
كيف حال المريض، ماذا جرى له
كيف أمسى ترى، وفي أي حاله؟
إن قلبي لدى سؤالك هذا
يقف اليوم، قاطعا آماله!
ما يفيد النواح يا أخت نفسي
إنني قسمة الردى، لا محاله
كل ليل أرى خيال ضريحي
وأرى الموت يستعد خلاله
كنت قبلا أعلل النفس لكن
علة الصدر لا تبقي علاله
امحقي ذكريات أمس، فخير
لك ألا يبقى لأمس سلاله
امحقيها بحق روحي وحبي
امحقيها، فالذكريات ضلاله
واعلمي أن دمعة فوق من ته
وين، تحت التراب تؤذي خياله
المريض
قرأتها فأمسكت عبرات
لو أريقت في النيل هالت جلاله!
عبرات من ذوب قلب مدمى
لو أريقت في القفر أدمت رماله!
أمسكتها عن الرسالة حتى
لا تهين الدموع تلك الرساله
وكأن الدجى مريض يوالي
في الشواطي مع النخيل سعاله
وإذا رعشة أمرت عليها
جانحيها، والليل يطوي ظلاله
وأتى الفجر شاحبا فوق موجا
ت كأن السعال أشغل باله!
ليلة عصيبة
ذات ليل كتربة القبر بارد
أو كصدر، خلا من العطف، حاقد
عرجت غادة ملثمة الوج
ه على فندق بزحلة حائد
وأطلت ترى المدينة في اللي
ل بجفن ساه، وقلب واجد
فإذا زحلة كمقلة ثكلى
وإذا النهر، ساكن الماء، جامد
فأحست برعشة عقبتها
خلجة في صميم فكر شارد
وأمالت عن المدينة وجها
جهمته أشباح تلك المشاهد
وأتاها الغلام يحمل فنجا
نا من الشاي في السكون السائد
نظرت نظرة إليه بجفن
هو للسهد والشجون موارد
ثم قالت: «كيف المريض؟» وأدنت
من جفاف الفنجان فاها الخامد
فأجاب الفتى ببعض ارتياب:
وحفيف الصفصاف في النهر هاجد «رحم الله من تسمين، أمسى ال
قبر مأواه، منذ يوم واحد!» •••
لم يكد يلفظ العبارة حتى
جمدت جمدة الدمى في المساجد
وارتمت لا تفيق من شدة اليأ
س، فخاف الغلام، واليأس جاحد
أيها الليل ما ظلمت قلوبا
لو عرفت القلوب ماذا تكابد!
على القبر
وترامى الصباح فوق الهضاب
بخيوط شفافة من ضباب
وبياض الثلوج تحت ضياء ال
فجر يبني بين الكروم روابي
وأطل الرهبان من شرفة الدي
ر عزاء النفوس في الأتعاب
فرأوا نقطة على القبر سودا
ء كرؤيا تبين خلف السحاب
قال صوت: «هذي عروس من الجن
تزور الضريح للإرهاب»
قال ثان: «لا بل ذه روح ميت
تستغيث الإله تحت العذاب»
ومضى ثالث يقول: «هي الرم
ز ليوم الدينونة الغلاب»
وأخيرا مضوا إلى القبر حتى
يطمئنوا للمشهد العجاب
فرأوا جثة مبعثرة الشع
ر تناجي وعينها في التراب
لم يبق السقام والحزن منها
غير رؤيا بقية من شباب •••
ما جرى للفتاة بعد فتاها
أيها الحب، يا سليل الخراب؟
ما جرى للفتاة؟ أين هي اليو
م؟ أجبني يا باعث الأوصاب
هل طواها الذي طوى من أحبت
أم تراها عادت لذاك التصابي؟
عش طويلا، وضح ما شئت، يا حب
إلى أن يثنيك يوم حساب
20 كانون ثان 1928
صفحة غير معروفة