عباس فوزي
جمعت بيننا مودة صميمة منذ أول يوم دخلت فيه الخدمة. وكان يجمع مكاتبنا ركن واحد بإدارة السكرتارية العامة، أنا وعباس فوزي وكيل السكرتارية، وعبد الرحمن شعبان مترجم الوزارة، ولما قدمه رئيسنا طنطاوي إسماعيل قائلا: الأستاذ عباس فوزي وكيل السكرتارية.
نظرت إليه باهتمام وسألته: حضرتك الكاتب المعروف؟
فأجاب بالإيجاب فشددت على يده بحماس، والموظفون يرمقوننا بفتور وقرف. وقلت له: طالما انتفعنا بكتبك عن التراث.
فقال: ولكن الجامعة لا تعترف إلا بالشهادات. - ولكن ثمة درجة من العلم تتخطى أي شهادة!
فقال بحنق: أستاذك إبراهيم عقل لا يؤمن بذلك.
على أي حال اعتبرته جوهرة في عالمي الجديد، زاملته في العمل، والتقيت به في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم وسالم جبر، ثم في صالون جاد أبو العلا في زمان متأخر. وعجبت كيف أنه في الدرجة السادسة فقط بالرغم من شهرته وبلوغه الخامسة والثلاثين من العمر، ثم تبين لي أن زملاءه يعتبرونه مغتصبا للدرجة باسم الخزعبلات التي يؤلفها. والموظف القح لا يحترم عادة إلا الموظف «الحقيقي» الخبير بالإدارة واللوائح، أما تأليف الكتب فيعد عندهم نوعا من العربدة التي لا تليق بالمحترمين من الرجال، ويحكون حكاية وثبته إلى الدرجة السادسة فيقولون إنه كان كاتبا بالأرشيف كما ينبغي له، فحتى الابتدائية لم يحصل عليها، ولكنه دأب - كلما تولى الوزارة وزير جديد - أن يحمل إليه مجموعة من مؤلفاته مصحوبة بإهداء شعري، وكان الوزراء يتقبلون الهدية شاكرين، ومن ثم يرجع إلى الأرشيف ويسدل الستار على الدراما المتكررة، حتى تولى الوزارة رجل يحب الأدب فأعجب به ورقاه إلى الدرجة السابعة، ثم - بعد عامين - إلى السادسة مع نقله وكيلا للسكرتارية، هكذا فرض الرجل عليهم. وكان الأستاذ عباس فوزي على علم بما يقال، وكان يبادلهم احتقارا باحتقار، وكثيرا ما قامت بينه وبينهم معارك كلامية حتى يفصل بينهم أهل الخير.
وكان يعتبر الموظف حشرة من الحشرات السامة، وكان يعرف الإنسان فيقول: «الإنسان موظف ناطق!»
غير أن رجلا فاضلا مثل طنطاوي إسماعيل قال لي مرة: احذر ذلك الرجل، إنه ذو علم ولكنه بلا خلق.
المسألة أنه كان مثقلا بالعيال والفقر، وكان يكافح بكل سبيل لإسعاد نفسه وأسرته، ولم أعرف رجلا مثله ينضح بالمرارة، وكان يترجم مرارته إلى سخريات لاذعة لا ترحم كبيرا ولا صغيرا، موظفا أو مفكرا أو أديبا، سخر من أخلاق الموظفين رغم تشبعه بها حتى قمة رأسه، ويهون من شأن الناجحين والمفكرين رغم قصوره عن بلوغ ما حققوه حتى في ميدانه، ويحتفظ دائما بمدخر لا ينفد من المعلومات التي تشكك في مواهبهم أو تزري بسلوكهم الشخصي، أما قيمته الحقيقية فكانت مركزة في تراث اللغة، ولا أغالي إذا قلت إنه كان يحفظه كله شعرا ونثرا عن ظهر قلب، قال لي يوما: شد ما يبهركم الأدب الغربي حتى تظنونه كل شيء، أما أدبكم العربي فلا تعرفون منه شيئا، إني أتحداك، اذكر لي ما شئت من مختار أشعارك الغربية وسأعطيك ما يقابلها من تراثنا.
صفحة غير معروفة