فقلت وقلبي يخفق: كلا. - أسرع بتهنئة شرارة النحال!
فهتفت: شرارة النحال؟! - نعم. - عامل التليفون؟! - نعم. - ولكنه بالابتدائية ووظيفته خارج الهيئة!
فرفع الرجل رأسه إلى فوق وقال: اللهم فاشهد، ما زال بمصر أناس يحتكمون إلى المنطق!
ثم مضى إلى حجرته، وذهبت إلى إدارة السكرتارية، فوجدت أن الترقية أصبحت خبر اليوم دون منازع. - هل سمعتم عن عامل تليفون في الدرجة السابعة؟ - من قال إنه عامل تليفون؟ ... لقد انتدب للعمل بمكتب وكيل الوزارة . - وكيل الوزارة على سن ورمح؟ - وكيل الوزارة على سن ورمح!
وتساءلت: كيف ... ولماذا؟
فقال لي الأستاذ عباس فوزي همسا: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا ...
وقال لي عم صقر الساعي وهو يقدم لي القهوة: لا تدهش يا بك، حضرتك موظف جديد نسبيا، هذا هو كل ما هنالك، والمسألة أنه كان تقرر ترقية موظف آخر، ولكن شرارة طلب مقابلة سعادة وكيل الوزارة، ولما طرد من سكرتاريته انتظر في الممشى حتى إذا خرج الوكيل في وقت الانصراف رمى بنفسه بين يديه، وقال بلهجة تمثيلية كأنه فاطمة رشدي إنه مسئول عن أسرة كبيرة، وإنه لا واسطة له بعد الله إلا سعادته، ونظر إليه الوكيل نظرة عابرة لا تخلو من ضيق وامتعاض، غير أن شيئا في وجه شرارة جعله يعيد إليه النظر باهتمام، ولبث ينظر إليه كأنما لا يريد أن يسترد بصره.
وسكت الساعي وهو يبتسم بخبث فساورني الشك. غير أني سألته: أي شيء تقصد؟
فانسحب الرجل من أمام مكتبي وهو يهمس باسما: في العشق يا ما كنت أنوح!
ونقل شرارة النحال إلى مكتب الوكيل بصفة نهائية للعمل في أرشيفه، وتغير منظره الخارجي ليناسب وظيفته الجديدة، فارتدى بدلة جديدة أنيقة بدلا من القديمة الرثة، ولبس حذاء أسود بدلا من النعل المطاط، وتزين عنقه بكرافتة حريرية عليها طابع الهبة، وأطل من طرف جاكتته الأعلى منديل مزركش. وصرنا إذا تقابلنا تبادلنا التحية تبادل الأنداد لا تبادلها القديم بين موظف وآخر في حكم السعاة. ولعله كان على وعي بما يدور عنه ولكنه لم يكترث له، إما لأنه كان مكشوف الوجه، أو لأنه آمن بأن مركز القوة خليق بمحق المعايب وإخراس الألسنة. وفي ظرف عامين عين شرارة سكرتيرا خاصا للوكيل مع ترقية إلى الدرجة السادسة. وتهامس الموظفون بشتى التعليقات كالعادة، وقال لي الأستاذ عباس فوزي: ستراه عما قريب ضمن الهيئة الحاكمة!
صفحة غير معروفة