سيد شعير
كان زعيم الجماعة من أصدقاء العباسية. أجل كان خليل زكي يماثله في القوة أو يفوقه ولكن الزعامة لا تقوم على القوة وحدها، لا بد لها من أساس مكين من الحب، وكان سيد شعير محبوبا كما كان كريما، وفي أوقات اللعب كان مهرجا، وفي ليالي رمضان كان نجما لامعا، ولا مفر من عقد المقارنات بينه وبين خليل زكي دائما، فكلاهما قوي سريع العدوان غير أن خليل ينطلق من شراسة إجرامية على حين ينطلق سيد من المجون والاستهتار، وكلاهما لم يوفق في الدراسة الابتدائية، وكلاهما وظفه أبوه في دكانه، وكلاهما طرد من رعاية أبيه، غير أن خليل طرد لشراسته على حين طرد سيد لسلوكه مع النساء من زبائن المحل. وبطرف عينه الماكرة اكتشف الهوى بيني وبين حنان، وراح يداعبني ساخرا من ترددي، حتى قال لي يوما: كلام فارغ، غرامك كلام فارغ.
ولم أحب أن يجعل من حبي سخرية من سخرياته، ولكنه قال: اسمع نصيحتي وواعدها في غابة التين الشوكي.
وفي مساء الأربعاء من كل أسبوع - في العطلة السنوية - كان يدعونا إلى بيته في آخر شارعنا من ناحية بين الجناين، حيث يقام ذكر في الفناء فنجلس على أريكتين متقاربتين نتابع الأناشيد الدينية، ونشاهد حركات الذاكرين، ونحتسي الشاي والقرفة، وكلما ابتعد أبوه عن مجالنا روى لنا ما يحفظ من النوادر الماجنة عن أهل الذكر! بقدر ما كانت أسرته متدينة بقدر ما كان مستهترا، وبقدر ما حيرني في فهمه. ولما يئس من مواصلة الدراسة في المدرسة الابتدائية عمل في دكان أبيه في الغورية، وفي العطلة السنوية كنا نذهب إليه في المغارب، ولما يغلق الدكان يمضي بنا في أنحاء الحي الحسيني، من عطفة إلى عطفة، ومن مقهى إلى مقهى، فعرفنا بإرشاده مجاذيب الباب الأخضر، والفيشاوي، والمدق، وخان الخليلي. واستمعنا إلى أذان علي محمود، ومواويل العربي، وعلمنا - ونحن في السنة الأولى من المدرسة الثانوية - تدخين الجوزة والبوري والنارجيلة ولعب النرد والدومينو. كانت تلك الأيام من أسعد أيام سيد شعير، كان يعيش في بيت والده، وينفق راتبه على مزاجه الخاص، ويتشبه بالرجال وهو في الرابعة عشرة من عمره، ونشأ الخلاف بينه وبين أبيه بسبب النساء من زبائن المحل، ومرة غازل امرأة وكان زوجها في الخارج فنشبت بينهما معركة وسرعان ما فصل أبوه بينهما، وانهال على ابنه ضربا أمام الناس، ففقد سيد عقله، وصب غضبه على البضائع من أوان زجاجية، ومعدنية وقوارير العطر وغيرها. وطرده الرجل، طرده من دكانه ومن بيته فانقطع ما بينهما إلى الأبد. اقترحنا أن نوسط آباءنا في الإصلاح بينهما ولكن سيد رفض ذلك بإباء وقال: سجن البيت لم يعد يناسبني ودنيا الله واسعة.
وكنا نظنها نزوة غضب، ولكن الأيام أثبتت لنا أنه بحق رجل الدنيا الواسعة، وأنه ذو قدرة غريبة على تمزيق الأواصر العائلية، ونبذها من حياته كأنها نفاية من النفايات. وقد حرت في تعليل ذلك في وقتها، ولكني أدركت فيما بعد أنه كان مراهقا منبوذا وسط ثلاثة إخوة ناجحين، عمل أحدهم مع والده بعد حصوله على التجارة المتوسطة، وواصل الآخران تعليمهما بتفوق ساحق، وقال لي بكبرياء: إن أي تاجر في الحي يتمنى أن يستخدمني!
فقلت له مخلصا: ولكن حكاية النسوان حكاية خطيرة.
فقال ساخرا: المرأة تتسكع بين دكان وآخر التماسا لغمزة عين، أو كلمة حلوة، أما البيع والشراء فلا يحدثان إلا في المواسم!
وعمل بالفعل في محال كثيرة، حتى خنقت الأزمة الاقتصادية التجارة، فاستغني عنه فيمن استغني عنهم، ووجد نفسه وحيدا بلا مورد ولا أهل ولا أمل. ولم يكن بوسعنا أن نقدم له - ونحن تلاميذ - أي مساعدة ناجعة، ولكنه كان صديقا لصاحب مقهى في مرجوش يعمل في الوقت نفسه تاجر مخدرات بالجملة، فعرض عليه أن يشتغل موزعا بالنسبة، وسرعان ما قبل. وأخبرنا بذلك في مباهاة طفولية فذعرنا، وقال له سرور عبد الباقي: أنت مجنون.
وقال له رضا حمادة: لن يكون ذلك أبدا.
ولكنه سخر من ذعرنا ورجانا في الوقت نفسه أن نخفي الأمر تماما عن خليل زكي الذي كان يمقته، واندفع في طريقه باستهتار غريب فانتشل نفسه من الجوع والكرب. وفي الخطوة التالية عرف السبيل إلى أحياء البغايا، لا كهاو، ولكن كمحترف، وعاشر امرأة وأقام معها في بيتها، ودعانا إلى الطواف بمملكته الجديدة. تخلف عن الدعوة سرور عبد الباقي، وذهبنا إليه مدفوعين بحب الاستطلاع والرغبات المكبوتة وسحر المغامرة. وذكرت في الحال تجربتي القديمة مع قريبي أحمد قدري، وعثرت على البيت، ودهشت للوجوه الجديدة التي طالعتني، ومضى سيد شعير بنا في تلك الدروب كما فعل من قبل في الحي الحسيني، ولقننا كافة تقاليدها وأسرارها، وسهرنا في مقاهي الأنس، ومجالس المعلمات والفتوات والبلطجية والبرمجية، حتى باتت أغانيها الخليعة وأناشيدها الساخرة ودعاباتها الفاضحة ورقصاتها العارية، باتت تعزف في رءوسنا كالسحر الأسود، وتسكب في قلوبنا عصير الأفراح والمآسي. وانضم بقدرة قادر إلى زمرة رجال الأعمال، فافتتح مقهى في وجه البركة امتاز بالأناقة والخمور الرخيصة وعازف أرغول يشنف آذان السكارى، ومدمني المخدرات من الزبائن، وكان يديره بحزم الفتوات، وابتسامة التجار المحترفين، مرتديا بدلة كالأفندية إشارة إلى أصله العريق المختلف عن أصول أصحاب المقاهي من أهل البلد البرمجية، ولما قامت الحرب العظمى الثانية تضاعفت أرباحه من المقهى غير أن رفيقته هجرته فيمن هاجر من حي البغايا من المومسات الجميلات اللاتي آثرن العمل في المشارب الليلية استغلالا للجنود البريطانيين، فلم يبق في الحي إلا النسوة الميئوس منهن ممن تقدم بهن العمر أو ذبل جمالهن. وتدهور الحي القديم، فلم يعد صالحا لارتياد الأفندية، ولم نعد نرى سيد شعير إلا كل حين ومين، وقد جمعنا مأتم شعراوي الفحام، ومرة أخرى اجتمع في ركن من السرادق جعفر خليل وخليل زكي ورضا حمادة والدكتور سرور عبد الباقي وعيد منصور وسيد شعير وأنا.
صفحة غير معروفة