فسألني: أتود للفاشستية أن تنتصر كما يود الملتفون حول الملك؟ - كلا طبعا. - فانظر إلى 4 فبراير إذن على ضوء ذلك الضوء.
وانتخب مرة أخرى عام 1950 عن نفس الدائرة، وكانت تعتريه نوبات حزن شديد، كلما شعر بأن الوفد لم يعد على المستوى الرفيع الذي طالما تربع عليه بجدارة، أو أنه تسلل إليه خور في الإرادة والاستقامة، وفتر حماس الشعب له. وكم اهتز طربا يوم ألغى مصطفى النحاس المعاهدة ثم أعلن الجهاد، يوم سرت في الوادي نفحة من روح 1919، ثم تتابعت الخيبات كالمطارق حتى قامت ثورة يوليو 1952، وتحمس لها فقال لي: سيعود الوفد بلا منازع!
ولما سارت الثورة في طريقها المرسوم أمل أن تتخذ من جماهير الوفد قاعدة لها، حتى إذا صدر قرار حل الأحزاب تقوضت آماله وقال لي: نحن مقبلون على حكم عسكري لن يعرف مداه إلا الله.
فقلت له بإخلاص: اعتزل السياسة وتركز في مهنتك!
فقال ضاحكا: لا خيار!
ولكن وفاءه لزعيمه وزملائه رمى به في موضع الشبهات؛ فاعتقل أكثر من مرة، وكان قد تزوج عام 1940 فأنجب ابنا وحيدا قبل أن تصاب زوجه بما منعها من الإنجاب. وطالما أعجبت بابنه لذكائه وحيويته، ولما اعتقل رضا تعرض لحملة تشهير كبقية زملائه فعانى ابنه - وكان طالبا في المدرسة الثانوية - تجربة مريرة بين أقرانه، وكان شديد الحساسية فامتحن بأزمة نفسية عنيفة أتلفت أعصابه. وسرعان ما كره المدرسة، واعتكف في بيته، ومضت حياته من سيئ إلى أسوأ، حتى اضطر أبوه إلى إيداعه مستشفى الأمراض العقلية، ولم تحتمل أمه الصدمة فشلت وماتت في نفس العام. هكذا وجد رضا نفسه كهلا وحيدا غارقا في الأحزان، وهكذا أدركته لعنة أسرته، قلت لنفسي: انتهى رضا حمادة.
ولكنه لم ينته في الواقع. غادر حيه القديم إلى مصر الجديدة، وكرس حيويته لمهنته ولمكتبه. ولعل العشرة الأعوام الأخيرة كانت أنجح سني حياته. إنه اليوم من أبرز المحامين. وهو عاكف على تأليف ما سماه بدائرة معارف العلوم الجنائية. وقد ضمن مقدمتها من الآراء الفلسفية والنظرات النفسية ما يشهد له بالموسوعية في المعرفة والمقدرة الفائقة في التفكير، وليس هذا بالجديد علي فقد سمعته يناقش الأساتذة ماهر عبد الكريم، وسالم جبر، وزهير كامل، وغيرهم فكأنه موسوعة في الفلسفة والسياسة والأدب، أما عن القانون فهو حجة من حججه المعاصرة بلا جدال، غير أن إعجابي الأول به إنما يرجع إلى شخصيته الأخلاقية قبل كل شيء، وقليلون جدا من عرفتهم يماثلونه في ذلك مثل: كامل رمزي، وسرور عبد الباقي. ولا غرابة في أن تبهرني الأخلاق البناءة كرجل عاصر فترة انهيار في الأخلاق والقيم لا نظير لها، حتى خيل إلي في أحيان كثيرة أنني أعيش في بيت كبير للدعارة لا في مجتمع. ففي رضا حمادة عرفت رجلا نقي النوايا والسلوك، نزيها مخلصا، آمن طيلة حياته بمبادئ لا يحيد عنها كالحرية والديمقراطية والثقافة إلى عقيدة دينية مستنيرة متطهرة من شوائب التعصب والخرافة.
أجل وقف موقف الرفض من أي رأي يساري، وعجز عن التطور مع الزمان، فعاصرته أول العهد بصداقته وهو مثال للشاب الثوري، ثم عاصرته في شيخوخته وهو محافظ عنيد، وإن لم يعترف بذلك، فما برح يردد أن الليبرالية هي آخر كلمة مقدسة في تاريخ الإنسان السياسي. ولعل شخصيته الأخلاقية هي التي سندته حيال الكوارث التي عصفت بحياته، وأيدته بسحرها، وهو يشهد اختفاء القيم والأشخاص الذين عبدهم مثل الحرية، والديمقراطية، ومصطفى النحاس، وزوجته وابنه، توارى كل جميل من دنياه فلم يتهدم، ولكن ثابر على العمل بقوة مضاعفة، وجابه الحياة بإرادة من فولاذ، وظل على علاقاته الطيبة بالأصدقاء والصالونات والمجالس. وكلما أقبل علي بقامته المديدة ورأسه الأبيض، أو أمتعني بأحاديثه المتنوعة، انبعث في أعماق روحي نشاط متألق بالأفراح فأجدد إعجابي به وبالحياة المباركة التي خلقته.
زهران حسونة
ثمة أصحاب من نوع خاص، أصحاب يرتبطون بمكان ما لا يتجاوزونه، حلا لي يوما أن أدعوهم أصحاب المقاهي. في المقهى نتصافح بحرارة ونتجالس ونتسامر ثم يذهب كل إلى سبيله. ومنهم من يختص بصفة تستحق التأمل فيترك أثرا قبل أن يذوب في النسيان. من أولئك زهران حسونة. عرفته في مقهى ركس في أيام الحرب العظمى الثانية، وكنت أتردد عليه من حين لآخر بصحبة جعفر خليل ورضا حمادة، وشعراوي الفحام، وعيد منصور، كان يزور المقهى مع آخرين من صحبه في يوم الأحد، وكان بدينا متوسط القامة كبير الرأس جدا كأن به عاهة، وعن طريق النرد تعرفنا بهم ثم صاحبناهم، قال يعرفنا بنفسه: كنت موظفا بوزارة التجارة والصناعة، ثم سويت معاشي لأشتغل في الأعمال التجارية.
صفحة غير معروفة