وخطابا حملتني
لفظه يشفي العليل
ومرة أهانه أبوه في الطريق لإهمال تورط فيه، فتأثر تأثرا بالغا. وسرنا وهو صامت حتى وقفنا عند السبيل كعادتنا كل أصيل في العطلة، وغاب عنا بعض الوقت، ثم رجع فلم يكد يلحظ أحدنا شيئا، وبغتة تكور وهو يقبض على بطنه بيدين متشنجتين ويصرخ من الأعماق، وانطرح على الأرض تحت شجرة، وراح يتمرغ في التراب، ومن شدة الألم يعض أصول الشجرة الضاربة في الأرض، واجتمعنا حوله فزعين واجتمع الناس، وما لبث أن جاءت الشرطة والإسعاف فحمل إلى قصر العيني؛ حيث أسعف من حمض الفنيك الذي شربه بقصد الانتحار. شد ما هزني الحدث والمنظر، وسألته فيما بعد: كيف هانت عليك نفسك؟
فابتسم في حزن وتمتم: ألم تر كيف أهانني أمامكم؟
وأعتقد أن تلك المحاولة المشئومة غيرت من سياسة أبيه نحوه كما أن تفوقه النادر وفر له المزيد من التقدير والاحترام. ولم يمنعه تفوقه الدراسي من الإسهام في النشاط السياسي الذي خفت حدته، وتغير لونه بعد انحسار موجة الثورة العارمة. فقد بلغنا أولى درجات الوعي بعد أن انقلبت الثورة الدامية أسطورة مقدسة من أساطير الغيب، وكان كل منا يحتفظ من ذكرياتها بمشهد عابر عجيب أو ذكرى شهيد أو هتاف مثير ولا شيء أكثر من ذلك، وقد اشتركنا معا في المظاهرة التي قادها نادر برهان تأييدا لسعد زغلول - وهو رئيس وزارة - في اختلافه الدستوري مع الملك فؤاد. وتوطدت علاقته في الثانوية مع بدر الزيادي لتقارب مشاربهما، ولما تولى محمد محمود الحكم قال بدر: لم يكن لنا من عدو في الماضي إلا الإنجليز.
فقال رضا حمادة: والملك. - هما شيء واحد. - موافق.
فقال بدر: وها هو عدو جديد ينضم إلى الميدان.
ولما قتل بدر الزيادي في فناء المدرسة حزن رضا حزنا شديدا، وقال لي: مات بدر على حين يحيا خليل زكي!
فقلت له بحزن: ومحمد محمود يحيا أيضا!
وتقدم رضا في نشاطه السياسي فجالس مصطفى النحاس في بيت الأمة ضمن وفود الطلبة، وقبض عليه في حكم محمد محمود، وكاد يقتل في عهد صدقي، وفي كلية الحقوق صار من زعماء الطلبة، فاستمعت مرات إلى خطبه الحماسية في الحرم الجامعي، كان مثالا للوفدي الصادق في إيمانه بالاستقلال والدستور والحياة الديمقراطية، وكان ينظر بامتعاض شديد إلى مجرى السياسة في مصر حتى آمن بفكرة نبتت في يقينه، قال : لقد فقد الوفد أو قل الشعب قوته الضاربة يوم قبض على زعماء جمعية الكف السوداء.
صفحة غير معروفة