وتفشت الشائعات عن كاميليا والمدير، وأصبح الشك يقينا عندما نقلت أخيرا إلى الإدارة القانونية، ولكن لم يخرب بيت، ولم يقم محله بيت جديد، ولما تعين عندنا صبري جاد نشأت بينه وبين الفتاة علاقة حب صادقة. ومع أنه بدا أول الأمر متمردا ومستهترا إلا أنه أحب كاميليا كما أحبته، وبالرغم من أنه كان يصغرها بعامين أو أكثر إلا أنهما أعلنا خطوبتهما رسميا، وسعدت أنا شخصيا بهذه النهاية السعيدة، التي شدت الاثنين إلى حياة أصيلة ومسئولية جادة من شأنها أن تعيد خلق الإنسان وتضمه إلى الركب الجاد في الطريق، ويوما بعد يوم فإن إيماني يرسخ بأن نقاء الإنسان يجيء من الخارج بقدر ما يجيء من الداخل، وأن علينا أن نوفر الضوء والهواء النقي إذا أردنا أزهارا يانعة.
ماهر عبد الكريم
كان أستاذا مساعدا بالكلية عندما التحقت بها عام 1930، وكان في منتصف الحلقة الرابعة، يتمتع بسمعة علمية وأخلاقية وإنسانية كأنها عبير المسك، ولم أعرف أستاذا فتن طلبته بسجاياه الروحية وسماحة وجهه مثله، وهو سليل أسرة عريقة، عرفت بثرائها كما عرفت في التاريخ الحديث بولائها للحزب الوطني، وعد هو بالتبعية من الموالين للحزب، ولكن ذلك لم ينل من حبنا له، والحق أنه لم يعلن عن ميل سياسي قط، ولم يقع في رذيلة التعصب أبدا، ولم ينطق في حديث عن هوى أو تحيز أو حقد، ووهب نفسه للعلم والخير، قال لنا مرة الدكتور إبراهيم عقل: لو كان جميع الأغنياء مثل ماهر عبد الكريم لقررت أن المثل الأعلى للإنسان أن يكون غنيا!
والحق أن كرمه كان يلتهم ثروته، فلم يصد محتاجا قط، وكان يجود بالإحسان سرا كأنما يتستر على عيب، وكان مثالا لسعة الصدر، هكذا كان في مناقشاته العلمية والعامة، بل والسياسة إذا جر إليها جرا، وكأن أسارير وجهه لم تهيأ أصلا إلا للتعبير عن التأمل أو الترحيب أو البشاشة، وغير قابلة للإفصاح عن الحدة أو الغضب. وكان قصره القديم بالمنيرة ملتقى أهل العلم والأدب والفكر، وبه متسع دائما لطلبته فيقدمهم إلى الكبار ويعاملهم معاملة الأنداد، وما أكثر الذين عرفتهم في صالونه من رجال الفكر. وكان التيار الجارف في أحاديث الصالون ثقافيا بالمعنى العام، ولم تكن السياسة لتخالطه إلا في ظروف نادرة، ومع ذلك لم يتردد الأستاذ سالم جبر عن إثارة موضع فوارق الطبقات يوما من أيام عام 1931 عقب عودته من رحلة في فرنسا، قال: إنهم في بعض الأوساط يحتقروننا لسوء حال شعبنا!
فابتسم الدكتور ماهر عبد الكريم وقال: أعتقد أنها حالة سيئة.
فقال الدكتور إبراهيم عقل مخاطبا سالم جبر: إنك تزور في فرنسا أوساطا متطرفة لعلها تضمر نفس الاحتقار لفرنسا أيضا، على أن الإنسان لا تتقرر حاله الحضارية بما يملك، ولكن بما ينبض به فكره وقلبه، وأنا شخصيا أعتبر الفقير الهندي أجل إنسانية من فورد أو روكفلر!
واحتد سالم جبر فاتهمه بالمثالية الرجعية، كما اتهمه بالصوفية التي يعدها مسئولة عن تأخر الشرق.
ولم يكن ماهر عبد الكريم يفكر كما يفكر سالم جبر، ولكنه اعتقد دائما بأن الإسلام يكفل للناس عدالة اجتماعية شاملة، كما اعتقد أن نشر التعليم يحقق الغاية نفسها بطريقة أخرى. ويوما دعاني أنا وجعفر خليل - عقب إحدى المحاضرات - لمقابلته في قصر المنيرة، ووجدناه وحده في بهو الاستقبال، فرحب بنا وقال: ستزورني آنسة أمريكية بناء على طلبها، وقد اخترتكما مترجمين بيني وبينها.
وكان يجهل الإنجليزية، ولعله فضل أن يستعين بنا على أن يستعين بأحد من زملائه الكبار، حتى تتبين له أسباب الزيارة الغريبة، وعند الغروب قدمت فتاة شقراء آية في الجمال في العشرين من عمرها، فسلمت وجلست وهي تعتذر عن تطفلها، وقدم لنا الشاي والحلوى، وراحت الفتاة تقص قصتها فقالت إنها تزور مصر ضمن مجموعة من الشباب، وإن أمها كلفتها بالبحث عن شخص في مصر يدعى ماهر عبد الكريم كان طالبا بالسوربون في أعقاب الحرب العظمى، وإن مدير الفندق دلها عليه وطلب قصره لها بالتليفون، ووضح لنا من تبادل الحديث أن أمها كانت زميلة لأستاذنا في باريس، وأنها كانت صديقته أيضا، وأنها انتهزت فرصة سفر ابنتها إلى مصر لتحملها تحياتها إليه.
وعلى طول الزيارة دار الحديث حول الذكريات القديمة الجميلة، وما آل إليه حال الصديقين القديمين في الوقت الحاضر. وعندما غادرنا القصر قلت لجعفر خليل: الظاهر أن تأثير أستاذنا فيمن حوله سجية قديمة فيه منذ عهد الشباب.
صفحة غير معروفة