وثبت لي أنه من الشيوعيين المتجددين، الذين يتطلعون دائما إلى الحرية، الذين يعتقدون أن الحرية تعاني مأساة مريرة، ولكنه لم يهون أبدا من شأن النقلة التاريخية التي وثبها الوطن، وكان يتعلق بالمستقبل المضيء كلما ألحت عليه عثرات الحاضر، ولما عرفته بالدكتور صادق عبد الحميد لمس سريعا ما يقرب بينهما من وجهات النظر فتوثقت العلاقة بينهما، ولما قبض على الشيوعيين حزن حزنا عميقا، وساوره قلق أشبه بتأنيب الضمير، ولكنه قال: إنه التعصب، والإيمان بالكتب أكثر من الواقع!
وكم اغتبط لدى الإفراج عنهم، واغتبط أكثر عندما علم بأنهم تبرأوا من الحزب الشيوعي، وعقدوا العزم على التعاون مع الثورة، وقال: ها هم يرجعون إلى موقفي الذي اتهمت به عندهم!
فقال الدكتور صادق عبد الحميد: وفي ظروف مختلفة تماما!
وتولوا مناصب رئيسية في الدولة والصحافة تاركين إياه - نسبيا - في القاع، فلم تخل نفسه من امتعاض، وأفلت منه ذلك القول مرة: أخشى أن يكتشف الكتاب يوما أن اللامعقول أسلوب مناسب لمعالجة العقائد أيضا!
ولم يعد يجد في الصحافة الراحة النفسية التي نعم بها طويلا، فطلب العودة إلى التدريس بالجامعة، وسرعان ما حققت له رغبته، ولما وقعت الواقعة - هزيمة يونيو 1967 - تزلزل كيانه كالجميع، وشدته إليها موجة النقد العاتية فغطس فيها وقب، ولكنه لم يكتب كلمة في الموضوع بالرغم من أنه كان يكتب نظرات أسبوعية في مجلة سياسية. وأشهد بأنه كان من أوائل من ثابوا إلى التوازن بل لعله كان أولهم، ففي أكتوبر من السنة نفسها نشر مقاله المشهور الذي حلل به الهزيمة، فاعتبرها درسا، وحذر من الاستسلام لطغيان النقد واحتقار الذات وتعذيبها وفقدان الثقة بالنفس، وأكد في النهاية حقيقة ما زال يؤمن بها وهي أن الثورة هي الأرض الحقيقية المتنازع عليها، لا سيناء ولا القدس، وأنها هي التي يجب أن تبقى وأن تستمر. وفي الأعوام التي تلت ذلك عكف على تأليف كتابه الرائع «من الهزيمة نبدأ»، وهو دستور لحياة جديدة تشق طريقها نافضة عن نفسها ركام الأتربة، وقد شهدته وهو يعمل في وحدته بالاتحاد الاشتراكي بهمة مذهلة، كما استمعت إليه في التلفزيون مرارا، وهو من القلة التي لم تصب بانقسام الشخصية، فهو هو سواء تكلم على الملأ أم في مجالسه الشخصية. وإشادتي به كانت بلا شك من أسباب إغضاب كثيرين ممن هزمتهم الأحداث مثل عجلان ثابت وسالم جبر. ولا أنسى كيف غضب الأستاذ سالم وأنا أنوه مرة بكتاب «من الهزيمة نبدأ» فقال ببرود: طالما احترمته، ولكنه لم يعد إلا المعادل الموضوعي المدني!
أما ثابت عجلان فسمى الكتاب «من الانتهازية نبدأ»، وجعل يضحك ويقول: حسبنا أن يكون لنا من الكتاب جاد أبو العلا وعزمي شاكر، يا بلد الاحتفال بالإسراء والمعراج في عصر الهبوط على سطح القمر!
ولكن الدكتور عزمي ما زال ثابتا في إيمانه وصدقه ونشاطه.
عزيزة عبده
عندما قدمني لها الدكتور زهير كامل في صالونه لم أكن أسمع باسمها لأول مرة، لعلي اطلعت عليه في مجلة أو جريدة. كانت بصحبة زوجها، سمراء أنيقة القسمات خفيفة الروح، قدرت عمرها بالثلاثين، وقال جاد أبو العلا إنها في الأربعين، وكان ذلك في عام 1960، وهي وزوجها - في الخمسين - فنانان تشكيليان، وقد دعياني إلى مسكنهما في مدينة الأوقاف فاطلعت على معرضهما الدائم، ودهشت وأنا أتنقل بين لوحات واقعية في زمن ندرت فيه الواقعية وطغى التجريد، بل كانت واقعية ذات أهداف واضحة، وقلت مداعبا: أخيرا أظفر بفن رجعي!
ولكنها قالت باحتجاج عذب: أمامك فن تقدمي، بل الفن التقدمي الوحيد!
صفحة غير معروفة