فيما روى الشيخان: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن.» يريد أن ارتكاب الكبائر لا يكون من الإنسان وهو مستحضر إيمانه بالله ورسوله وما أعد من ثواب وعقاب. فلو قد استحضر الإنسان هذا الإيمان لصده عن الفواحش، ولكن غرائزه تطغى على نفسه كلها فتجور بها عن الطريق، ثم يثوب الإنسان إلى نفسه أحيانا فيندم ويأسى ويتوب إلى الله ويسأله العفو والمغفرة.
إلى هذا كله وإلى أكثر من هذا كله، دعا الله في القرآن في تفصيل أي تفصيل، وفي ترغيب للراغبين وترهيب للراهبين، وتخويف للذين تغرهم أنفسهم وتزدان في أعينهم زهرة الحياة الدنيا فيفتنون بها. فلا غرابة في أن تختلف مذاهب القوم في القرآن باختلاف الموضوعات وباختلاف المقامات أيضا، وإنما الغرابة في التزام مذهب واحد من مذاهب القول في التشريع والقصص والتبشير والإنذار والموعظة اللينة واللوم العنيف. وهذا التنوع في مذاهب القول بتنوع الموضوعات والمقامات هو الذي يسميه أصحاب البيان في اللغة العربية وفي غيرها أيضا مطابقة الكلام لمقتضى الحال. فالإنذار بقيام الساعة وما يكون فيه من الهول، وبيوم الحساب وما يكون فيه من الشدة يقتضي أن يكون القول من القوة والأيد بحيث يملأ القلوب رعبا، ولا سيما حين يكون النذير متجها إلى الملحين في الإنكار والعناد والمكابرة. وأنت تقرأ من هذا الإنذار الشديد المروع في القرآن شيئا كثيرا. واقرأ إن شئت طائفة من السور القصار في آخر المصحف فسترى تصوير الهول قد بلغ من القوة ما يملأ النفوس رهبا ورعبا.
واقرأ إن شئت ما جاء في سورة التكوير والانفطار والانشقاق، وانظر إلى ما فيها من هذه الآيات القصار المتلاحقة التي تنصب على السامعين كأنها الصواعق المتتابعة. واقرأ إن شئت في السور الطوال والقصار جميعا بعض الآيات التي يستحضر فيها يوم الحساب وما يكون فيه من الهول المروع للمجرمين ومن الأمن الآمن للمؤمنين، فسترى الشدة كل الشدة واللين كل اللين وستراهما متجاورين، وستحس كأنك تشهد ما أعد للمجرمين من هول وما أعد للمؤمنين من أمن فتضطرب نفسك أشد الاضطراب بين الرهب والرغب وبين الخوف والأمن. وقلما يفترق الترهيب والترغيب في القرآن وإنما يوشكان أن يجتمعا دائما. ولأمر ما كان هذا الاجتماع، فالله لا يوئس الكافرين من رحمته حتى يفتح لهم باب الأمل فيها ويمد لهم أسبابه إليها. فليس بين الكافر الجاحد المعاند الذي يرى عذابه كأنه حاضر بين يديه وبين الجنة ونعيمها إلا أن يؤمن.
فالكافر بين شيئين يكاد يراهما رأي العين حين يتلى عليه القرآن: عن يمينه جنة فيها الأمن والرضى والنعيم، وعن شماله النار فيها الهول والروع والعذاب وما عليه إلا أن يختار. والله لا يوئس المؤمن العاصي وإنما يجعل بين يديه خطيئته التي تكبه على وجهه في النار وتوبته التي تسعى به إلى الجنة. والله يبين للكافرين وللعصاة من المؤمنين أنه غفور رحيم وأن رحمته وسعت كل شيء، وأن السبيل إلى رحمته هو أن يؤمن الكافر وأن يتوب المؤمن ويصلح، وكلاهما مختار بين ما يدخله الجنة وما يوقعه في النار.
وقف إن شئت عند كل موضوع عرض له القرآن فسترى من ملاءمة القول للموضوع وللمقام مثل ما بينت لك آنفا.
ولو ذهبت أصف فنون الإعجاز في القرآن وملاءمة كل مذهب من مذاهب القول فيه لما فرغت من هذا الحديث. والقرآن بعد ذلك بين يدي كل ذي بصيرة يستطيع أن يقرأه وأن يقف عند سوره وآياته متدبرا متأملا مستبصرا، فسيرى من غير شك أني لم أبلغ من وصف القرآن وإعجازه بعض ما أريد، وإعجاز القرآن شيء يشعر به القلب وتمتلئ به النفس ويذعن له الضمير ويعجز عن وصفه القلم واللسان.
وواضح أني لم أرد في هذا الحديث إلا أن أصور تصويرا مقاربا موقع القرآن من قلوب الذين سمعوه حين كان النبي يتلوه على الذين استجابوا له والذين امتنعوا عليه، ولم يكن امتناعهم عليه إلا إمعانا في العناد ولجاجا في المراء.
ولننتقل الآن إلى الأصل الثاني من أصول الإسلام وهي السنة.
3
أشرت في أول الكتاب الثاني أن النبي
صفحة غير معروفة