فكل سورة يتحد موضوعها أو تتداعى موضوعاتها تداعيا شديدا ويلتزم فيها نسق بعينه فيرجح أنها نزلت جملة.
وكل سورة تختلف موضوعاتها وتتباعد ولا تتداعى ولا يلتزم في آياتها نسق بعينه فيرجح أنها نزلت منجمة.
والقرآن كله من عند الله، وهو وحدة في روحه وفي إعجازه مهما يختلف تنزيل سوره، ومهما تختلف موضوعات السور ومذاهب القول فيها.
واختلاف مذاهب القول في القرآن دليل قوي من دلائل الإعجاز؛ فللقرآن وحدته من حيث إنه يدعو دائما إلى أصول معينة: إلى توحيد الله، ونبذ الشرك على اختلاف صوره، والإيمان بمحمد
صلى الله عليه وسلم
وما جاء به من القرآن، والإيمان بالرسل الذين جاءوا قبل محمد وما أنزل عليهم من الكتب، والإيمان بالبعث وبالحياة الآخرة بعد هذه الحياة الأولى وما يكون فيها من ثواب ونعيم لمن أجابوا دعوة الله، ومن عذاب وجحيم لمن أعرضوا عن هذه الدعوة ونفروا منها واستكبروا على الله ورسوله. ثم هو يأمر الناس بأن يقيموا حياتهم على هذه الأسس، حياتهم فيما بينهم وبين نفوسهم بحيث يبرءون من الرذائل كلها كبارها وصغارها فلا يضمرون في أنفسهم منها شيئا، وحياتهم الظاهرة فيما يكون بينهم وبين غيرهم من الناس فلا يظلمون ولا يستعلون ولا يؤثرون الشر، وإنما ينبذونه ما استطاعوا إلى نبذه سبيلا ويؤثرون عليه الخير وحده فيحسنون إلى الوالدين ويتجنبون الإساءة إليهما حتى ولو كانا مشركين. ففي هذه الحال يخالفونهما إلى الإيمان ويعاشرونهما في الدنيا معروفا. ويبرون أولي القربى ويرحمون اليتامى والمساكين ويعطفون على الفقراء وأولي الحاجة ويعدلون فيما بينهم وبين نظرائهم من صلة. والناس جميعا نظراؤهم مهما تكن منزلتهم الاجتماعية؛ فالفقير نظير الغني والضعيف نظير القوي والرقيق نظير الحر، لكل حقوق يجب أن تؤدى إليه وعلى كل واجبات يجب أن يؤديها. والمهم أن يلائم الإنسان بين إيمانه بالله الواحد القوي العالم بكل شيء القادر على كل شيء وما أعد من خير للمحسنين وما أعد من شر للمسيئين، أن يلائم بين إيمانه الصادق بهذا كله وبين ما يخفي وما يظهر من ذات نفسه وما يأتي من الأعمال وما يدع منها. ومن أجل هذا يشرع الله للناس في القرآن من الأحكام والأصول ما يبين لهم السبيل إلى هذه الملاءمة ويمهد لهم الطريق إلى أن يقيموا حياتهم على السلم الكاملة بينهم وبين الله ما عاشوا في هذه الدنيا.
والنفس المطمئنة التي ذكرها الله في سورة الفجر ودعاها إلى أن ترجع إلى ربها راضية مرضية، وإلى أن تدخل في عباده وتدخل جنته إنما هي هذه النفس التي صدقت في إيمانها بالله ورسله وكتبه وثوابه وعقابه، وأخلصت هذا الإيمان واطمأنت إليه فعاشت في سلم مع الله لا تحاربه بالمعصية حربا ظاهرة أو باطنة.
وأما النفوس الأخرى التي لم تطمئن إلى إيمان ولم تستقم على ما أمرت به، وإنما جارت عن القصد والتوت بها السبل فهي تظهر السلم وتضمر الحرب فتعلن الإسلام وتضمر الكفر أو تضمر الإيمان ولكنها لا تثبت له ولا تقوى عليه، وإنما تقترف الآثام وتجترح السيئات وتستجيب لشهواتها فتجور وقد أمرت بالعدل، وتفجر وقد أمرت بالبر، وتعصي وقد أمرت بالطاعة.
كل هذه النفوس محاربة لله حربا خفية أو ظاهرة بالقياس إلى الناس، ولكنها جلية بينة بالقياس إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وفي بيان ذلك يقول النبي
صلى الله عليه وسلم
صفحة غير معروفة