وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون .
وصدق الله كذلك حين قال في سورة الحشر:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
فقد خشعت قلوب العرب للقرآن آخر الأمر؛ نفذ إلى قلوبهم واستأثر بضمائرهم وفتح لهم آفاقا كانت مغلقة أمامهم قبل أن يتلى عليهم، وحررهم بعد الرق: رق النفوس للشهوات، وطهرهم بعد الرجس: رجس الخطايا والآثام، ووحدهم بعد الفرقة، وأعزهم بعد الذلة، وملأ قلوبهم نورا فانبثوا في الأرض ينشرون نور الله ما وجدوا إلى نشره سبيلا.
وزاد إقبال العرب على الإسلام وإذاعتهم له بعد الحجة التي حجها أبو بكر - رحمه الله - بالناس عن أمر النبي سنة تسع؛ ففي هذه الحجة أرسل النبي عليا ليلحق بأبي بكر ويتلو على الناس قرآنا أنزل فكان فصلا بين عهدين: عهد الإسلام يقوى فيه شيئا فشيئا وكان للشرك مع ذلك بقاء في بعض قبائل العرب، وعهد آخر خلصت فيه الجزيرة كلها للإسلام.
وهذا القرآن الذي فرق الله به بين هذين العهدين هو الآيات الكريمة الأولى من سورة التوبة، فأعلن فيها براءة الله ورسوله من المشركين، وحرم فيها أن يقرب المشركون البيت أو يلموا به أو يطوف به عريان.
وأمر فيها نبيه والمؤمنين معه أن يلغوا ما كان بينهم وبين المشركين من العرب من عهود الهدنة، وألا يتموا من هذه العهود إلا ما كان بينهم وبين قوم لم يظهر منهم غدر ولا نقض للعهد، فهؤلاء أمر الله أن يتم المؤمنون لهم عهدهم إلى مدته ثم لا يجددوا لهم عهدا آخر، وأجل الناس أربعة أشهر يأمنون أثناءها، فإذا انقضت فعلى المسلمين أن يقتلوهم حيثما وجدوهم وأن يقعدوا لهم كل مرصد؛ لأنهم أهل غدر لا يؤمن لهم. وأمر ألا يكف المؤمنون عن قتلهم وعداوتهم حتى يتوبوا من شركهم ويدخلوا في الإسلام كما دخلت كثرة العرب.
ومعنى ذلك أن الله حرم الشرك في جزيرة العرب، وأمر النبي أن يقاتل المشركين من أهل الجزيرة حتى يثوبوا إلى الحق ويدخلوا فيما دخل فيه الناس. لم يأمر الله بذلك إلا لأنه علم أن هؤلاء المشركين إن أتيح لهم أن يظهروا على المسلمين بما في قلوبهم من الغدر والكيد وما يسلط عليهم من الإغراء لم يرعوا فيهم إلا ولا ذمة ولم يحفظوا عهدا ولا وفاء.
وهذه الآيات الكريمة هي قول الله عز وجل في أول سورة التوبة:
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم * إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين * فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون * كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون * فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون * وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم * أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون * ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين .
صفحة غير معروفة