وهذه التجارة المتصلة بين أهل القرى وبين الأمم المجاورة كانت جديرة أن تعرف العرب كثيرا من شئون الفرس والروم والحبشة أيضا. ولأمر ما تنصر أفراد من قريش كورقة بن نوفل وزيد بن عمرو، ولأمر ما نجد فيما ينسب إلى بعض الشعراء في ذلك العصر من الشعر ما يدل على أنهم قد عرفوا أطرافا من المسيحية واليهودية كالذي نجده عند النابغة الذبياني وعند زهير وعند الأعشى وعند أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه النبي
صلى الله عليه وسلم
فيما روى الشيخان: «كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.»
ونحن لا نجد عند الشعراء هذه الأطراف من الديانتين اليهودية والمسيحية فحسب، وإنما نجد عندهم - إن صح ما ينسب إليهم من الشعر - وصفا لأطراف من حضارة تلك الأمم كوصفهم لمجالس اللهو والشراب والغناء وغير ذلك.
فعزلة الأمة العربية إذن سخف من السخف لا ينبغي أن يقبل أو يطمأن إليه. وكل ما في الأمر أن قلب الجزيرة العربية وشمالها لم يخضعا لسلطان أمة متحضرة، وإنما خلي بينهما وبين الحياة الحرة يحياها أهلهما كما يريدون أو كما يستطيعون. فعاشوا عيشتهم تلك الغليظة الجافية لم تصل إليهم الحضارة وإنما وصلت إليهم أطراف منها. فهموا بعضها وقصروا عن فهم بعضها الآخر؛ فسيطرت عليهم جاهليتهم بكل ما فيها من الآثام والشرور والمنكرات.
3
وكان لهم دين غليظ كحياتهم هو هذه الوثنية الساذجة الغليظة التي لم تفكر فيها عقولهم ولم تمتزج بقلوبهم، وإنما كانت أخلاطا ورثوها عن آبائهم فلم يغيروا منها شيئا، بل أنكروا كل من حاول أن يغير منها شيئا كالذي صنعت قريش بزيد بن عمرو حين أظهر السخط على دينها. وإذا أردنا أن نحلل هذا الدين الذي كانت العرب تدين به في غير فقه ولا تعمق، فسنرى أولا أنهم لم يكونوا ينكرون أن للسموات والأرض وما فيهن خالقا هو الإله الأعظم. واقرأ إن شئت قول الله عز وجل:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله .
ثم اقرأ إن شئت هذا البيت الذي أحبه النبي
صلى الله عليه وسلم
صفحة غير معروفة